باب ما يدل على ترك الكلام فى الفتنة
حدثنا مسدد ومسلم بن إبراهيم قالا حدثنا حماد عن على بن زيد عن الحسن عن أبى بكرة ح وحدثنا محمد بن المثنى عن محمد بن عبد الله الأنصارى قال حدثنى الأشعث عن الحسن عن أبى بكرة قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للحسن بن على « إن ابنى هذا سيد وإنى أرجو أن يصلح الله به بين فئتين من أمتى ». وقال فى حديث حماد « ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين ».
الصلح بين المسلمين أمر واجب شرعا على من قدر عليه، وقد ضرب الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أروع الأمثلة في التضحية بحظ نفسه من أجل الصلح بين المسلمين بعد القتال بينهم في أحداث الفتنة الكبرى
وفي هذا الحديث يحلف التابعي الحسن البصري أن الحسن بن علي تجهز بكتائب وجيوش أمثال الجبال، لا يرى طرفها؛ لكثرتها، كما لا يرى من قابل الجبل طرفيه، ويحتمل أن يريد شدة البأس، وكان سيقع هذا القتال بين الحسن ومعاوية رضي الله عنهما على إثر ما كان يريده علي بن أبي طالب رضي الله عنه زمن خلافته لقتال أهل الشام، وكان عليهم معاوية رضي الله عنه، فلما قتل علي رضي الله عنه، خرج الحسن ابنه لإنفاذ ما كان عليه أبوه
فقال عمرو بن العاص رضي الله عنه محرضا لمعاوية رضي الله عنه على قتال الحسن رضي الله عنه لما رأى الجيش: إني لأرى كتائب لا تولي -أي: لا تدبر- حتى تقتل أقرانها، جمع قرن، وهو الكفء والنظير في الشجاعة والحرب، فأجابه معاوية رضي الله عنه: إن قتل جيشنا جيشه أو قتل جيشه جيشنا، فمن يتكفل لي بأمور الناس؟ من لي بنسائهم؟ من لي بضيعتهم من الأطفال والضعفاء، فيرعاهم؟ لأنهم لو تركوا بحالهم ضاعوا؛ لعدم استقلالهم بأمر المعاش. وقول الحسن البصري: «وكان والله خير الرجلين»؛ لأن عمرا كان أشد من معاوية في الخلاف مع الحسن بن علي رضي الله عنهم أجمعين، وعمرا كان يريد القتال، ومعاوية يريد الصلح حفاظا على الدماء والأرواح
فبعث معاوية إلى الحسن رضي الله عنهما رجلين من قريش من بني عبد شمس، وهما عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه، وعبد الله بن عامر بن كريز -قيل: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم-، فأمرهما معاوية رضي الله عنه أن يذهبا إلى الحسن رضي الله عنه، ويعرضا عليه الصلح وأن يكلماه في حقن دماء المسلمين بالصلح، وقوله: «واطلبا إليه»، أي: اطلبا منه خلع نفسه من الخلافة وتسليم الأمر لمعاوية، وابذلا له في مقابلة ذلك ما شاء من المال ونحوه، فذهبا إليه وكلماه، فقال الحسن رضي الله عنه للرسولين: «إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال»، أي: إنا جبلنا على الكرم والتوسعة على أتباعنا من الأهل والموالي، وكنا نتمكن من ذلك بالخلافة حتى صار ذلك لنا عادة، «وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها»، أي: قتل بعضها بعضا، فلا يكفون عن ذلك إلا بالصفح عما مضى منهم والتألف بالمال؛ فأراد أن يسكن الفتنة ويفرق المال فيمن لا يرضيه غير المال
فأخبراه بما يعرضه معاوية رضي الله عنه من المال والأقوات والثياب، فسألهما الحسن رضي الله عنه عمن يتكفل ويضمن له شروطه، قالا: نحن نتكفل لك به، فكانا هما الضامنين لكل شروطه التي تسهم في تحقيق الصلح بين المسلمين، فما سألهما الحسن رضي الله عنه شيئا إلا قالا: نحن نتكفل لك به، فصالحه الحسن رضي الله عنه على ما وقع من الشروط؛ رعاية لمصلحة دينية ومصلحة الأمة
ويحكي الحسن البصري: أن أبا بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي رضي الله عنهما إلى جنبه -وكان صغيرا-، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى الناس مرة وإلى الحسن مرة، فقال: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين، أي: فرقتين عظيمتين من المسلمين، ويقصد ما حدث بين معاوية والحسن رضي الله عنهما؛ فإن نزاعهما على أمر الخلافة لم يخرجهما من دائرة الإسلام، وكانت تلك السنة سنة الجماعة؛ لاجتماع الناس واتفاقهم، وانقطاع الحرب
وفي الحديث: علامة من علامات النبوة صلى الله عليه وسلم.
وفيه: فضيلة الحسن بن علي رضي الله عنهما.
وفيه: مشروعية الصلح على مال ليرضى أصحاب الحقوق.
وفيه: أن الرسل يسمع قولهم ولا يتعرض إليهم.
وفيه: ولاية المفضول على الفاضل.
وفيه: أن السيادة إنما يستحقها من ينتفع به الناس؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علق السيادة بالإصلاح بين الناس.