باب ما يكره من المزارعة 2
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن أسيد بن ظهير ابن أخي رافع بن خديج
عن رافع بن خديج، قال (1): كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث والربع والنصف، ويشترط ثلاث جداول، والقصارة وما سقى الربيع، وكان العيش إذ ذاك شديدا، وكان يعمل فيها بالحديد وبما شاء الله، ويصيب فيها منفعة، فأتانا رافع بن خديج فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهاكم عن أمر كان لكم نافعا، وطاعة الله وطاعة رسوله أنفع لكم، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهاكم عن الحقل، ويقول: "من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه، أو ليدع" (2).
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يُرشِدُ أصحابَه إلى عدَمِ التَّنازُعِ، وخاصَّةً في المعامَلاتِ الَّتي ينبَغي أن تكونَ واضِحةَ الحدودِ والمعالِمِ، ومِن ذلك كِراءُ الأرضِ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ أُسَيدُ بنُ ظُهَيرٍ رَضِي اللهُ عَنه: "كان أحَدُنا إذا استَغنى عن أرضِه"، أي: استَغنى عن زِراعتِها، "أعْطاها بالثُّلثِ والرُّبعِ والنِّصفِ"، أي: كَرَاها بأحَدِ هذه المقاديرِ ممَّا يَخرُجُ منها، "ويَشترِطُ"، أي: صاحِبُ الأرضِ "ثلاثَ جَداوِلَ"، أي: ثلاثَ حِصصٍ مِن جَداوِلَ، جَمعُ جَدْوَلٍ: وهو النَّهرُ الصَّغيرُ، أي: ما يَخرُجُ على أطرافِها، "والقُصارَةَ"، والقُصارةُ: هو ما بَقي مِن الحَبِّ في السُّنبُلِ بعدَما يُداسُ، "وما يَسْقي الرَّبيعُ"، وهو النَّهرُ الصَّغيرُ، كأنَّهم يَجعَلون قِطعةً مِن الأرضِ يَسْقيها الرَّبيعُ، "وكان العَيشُ إذْ ذاك شَديدًا"؛ أي: بسبَبِ الفقرِ وقِلَّةِ الزَّرعِ، "وكان يَعمَلُ فيها بالحديدِ وبما شاء اللهُ"، أي: يَعمَلُ في الأرضِ بالحديدِ في السَّقْيِ والحَرْثِ والدَّوسِ واستِخراجِ الحَبِّ مِن سُنبُلِه، "ويُصيبُ"، أي: صاحِبُها، "منها مَنفَعةً" ممَّا يأخُذُه مِن نَصيبِه مِن ثِمارِ الأرضِ.
قال أُسَيدُ: "فأتَانا رافِعُ بنُ خَديجٍ؛ فقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم نَهاكم عن أمرٍ كان لكم نافِعًا، وطاعةُ اللهِ وطاعةُ رسولِه أنفَعُ لكم"، أي: طاعةُ اللهِ ورسولِه أكثرُ نفعًا لكم في الدُّنيا والآخِرَةِ، "إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يَنْهاكم عَن الحقْلِ"، ومعنى الحَقلِ والمُحاقَلةِ مُختلَفٌ فيه؛ فقيل: هي اكْتِراءُ الأرضِ بالحِنْطةِ؛ هكذا جاء مُفسِّرًا في بعضِ الرِّواياتِ، وهو الَّذي يُسمِّيه الزَّرَّاعُون المُحارَثةَ، وقيل: هي المُزارَعةُ على نَصيبٍ مَعلومٍ؛ كالثُّلثِ والرُّبعِ ونَحوِهما، وقيل: هي بيعُ الطَّعامِ في سُنبُلِه بالبُرِّ، وقيل: بيعُ الزَّرعِ قبلَ إدراكِه، وإنَّما نهى عنها لأنَّها مِن الْمَكيلِ، وهو منهيٌّ عنه إذا كانا مِن جِنسٍ واحدٍ إلَّا مِثلًا بمِثلٍ ويَدًا بيَدٍ، وهذا مجهولٌ لا يُدْرَى أيُّهما أكثَرُ، ولعلَّ المرادَ بها هُنا: المُزارَعةُ على الرُّبعِ أو الثُّلثِ أو النِّصفِ، كما جاء في أوَّلِ الحديثِ.
قال: "ويَقولُ: مَن استَغْنى عن أرضِه فَلْيَمنَحْها أخاه أو لِيَدَعْ"، أي: يُعطِها له لزِراعَتِها على وجْهِ الهِبَةِ والهديَّةِ والمِنْحةِ، أو يَتْرُكْها بلا زِراعةٍ، وقد ورَد أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لم يَنْهَ عن كِرائِها؛ ففي ابنِ ماجهْ عن ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما: "أنَّه لَمَّا سَمِع إكثارَ النَّاسِ في كِراءِ الأرضِ، قال: سُبحانَ اللهِ! إنَّما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: «ألَا مَنَحَها أحدُكم أخاه!»، ولم ينهَ عن كِرائِها، قال مثل ذلك، ولكنَّه قال أوْضحَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لم يَنْهَ عن كرائِها، بل أرشدَ النَّاسَ إلى طريقةٍ حسنةٍ في المعاملةِ، ولم يَنهَهُم عن كراءِ الأرضِ.
وقد ورَد عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في آخِرِ حياتِه أنَّه قد أعطى خيبرَ لليهودِ على أن يَعمَلوها، ويَزرَعوها، ولهم شَطرُ ما خرَج مِنها، وعَمِل بذلك أبو بكرٍ وعُمرُ فترةً حتَّى أجلاهم مِن خيبرَ.