باب مثل الدنيا4

سنن ابن ماجه

باب مثل الدنيا4

حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي، حدثنا حماد بن زيد، عن مجالد بن سعيد الهمداني، عن قيس بن أبي حازم الهمداني، قال حدثنا المستورد بن شداد، قال: إني لفي الركب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أتى على سخلة منبوذة، قال: فقال: "أترون هذه هانت على أهلها؟ " قال: قيل: يا رسول الله، من هوانها ألقوها، -أو كما قال- قال: "فوالذي نفسي بيده، للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها" (1)

كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعلِّمُ أصحابَه في كلِّ المواقِفِ ويَضرِبُ لهم الأمثالَ؛ لِيَكونَ أقربَ إلى أفْهامِهم وعُقولِهم.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مرَّ بالسُّوقِ، داخلًا مِن بعضِ العاليَةِ، والعاليَةُ والعوالي أَماكنُ بأَعلى أَراضي المدينَةِ، يعني أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان قدْ ذَهَب إلى بعضِ عَوالي المدينةِ، فرجَعَ منها ودَخَل السُّوقَ، والنَّاسُ يَمشُون بِجانبِه وحوْلَه.
فمَرَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بجَدْيٍ -وهو الذَّكرُ مِن وَلدِ المَعزِ- وكان ميتًا، وَصفَتْه أنَّه «أَسَكُّ» وهُو صَغيرُ الأُذنِ أَو مُقطوعُ الأُذنِ، فأمسَكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأُذُنه، ثُمَّ سَـألَ أَصحابَه رَضيَ اللهُ عنهم: «أَيُّكمْ يُحِبُّ أنَّ هَذا لَه بدِرْهمٍ؟» وَهذا الاستِفهامُ إِرشادٌ مِنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتَنبيهٌ، يُنَبِّهُهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على إِلقاءِ السَّمعِ لِلخِطابِ، فَقال الصَّحابة رَضيَ اللهُ عنهم: «ما نُحِبُّ أنَّه لنا بشَيءٍ» وهو كِنايةٌ عن رَفضِهم له بأقلَّ مِن الدِّرهمِ، وكان الدِّرهمُ أقلَّ النَّقدِ عندَهم حينئذٍ، «وَما نَصنَعُ به؟!» أي: إنَّه لا يُنتفَعُ به على أيِّ حالٍ كان؛ لأنَّه ميِّتٌ، فأَعادَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَولَه مَرَّةً ثانيةً، فأخْبَروه أنَّه لو كانَ حيًّا لكان صِغَرُ -أو قَطْعُ- أُذنِه عَيبًا فيهِ، فكيْف يكونُ السَّكَكُ فيه (وهو ميِّتٌ)؟! فهو أحقُّ وأحْرى بالعيبِ إذا كان ميِّتًا، فحينئذٍ قالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «فَواللهِ لَلدُّنيا أَهونُ»، أي: لَجميعُ أَنواعِ لَذَّاتِها أَحقَرُ وأذلُّ عَلى اللهِ مِن هَذا الجَدْيِ الأَسَكِّ المَيِّتِ؛ فَهِي لَيستْ بِشيءٍ عِندَ اللهِ.
وفي الحديثِ: بَيانُ حَقارةِ الدُّنيا وهَوانِها على اللهِ سُبحانَه وتَعالَى.
وفيه: بَيانُ ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن تَحذيرِ أُمَّتِه مِن الاغترارِ بالدُّنيا؛ لأنَّها تُنسِي الآخرةَ الَّتي هي دارُ القرارِ.
وفيه: مَسُّ مَيتةِ مَأكولِ اللَّحمِ.