باب من لقي الله تعالى بالإيمان غير شاك فيه دخل الجنة 2

بطاقات دعوية

باب من لقي الله تعالى بالإيمان غير شاك فيه دخل الجنة 2

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أو عن أبي سعد - رضي الله عنه - (شك الأعمش) قال: لما كان غزوة تبوك, أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا (نواضحنا) (1) فأكلنا وادهنا (2). فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "افعلوا," قال: فجاء عمر فقال: يا رسول الله إن فعلت قل الظهر (3)، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم (4) ثم ادع الله لهم بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك (5). فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم", فدعا بنطع (6) فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم, قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة, قال: ويجيء الآخر بكف تمر, قال: ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير, قال: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة, ثم قال: خذوا في أوعيتكم, قال: فأخذوا في أوعيتهم, حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملأوه, قال: فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة". (م 1/ 42)

فَضلُ اللهِ على عِبادِه عَظيمٌ، ورَحمتُه وَسِعَت كلَّ شَيءٍ، ومِن رَحمتِه لهم أنَّ مَن ماتَ على التَّوحيدِ دخَلَ الجَنَّةَ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ أبو هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّهم كانوا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سَفَرٍ لهم، وفي روايةٍ لمُسلِمٍ: أنَّهم كانوا في غزوةِ تَبوكَ سَنةَ تِسعٍ منَ الهِجرةِ، «فنَفِدَتْ أزْوادُ القَوْمِ»، وفي روايةِ البُخاريِّ من حديثِ سَلَمةَ بنِ الأكوَعِ رَضيَ اللهُ عنه: «خفَّتْ أزوادُ النَّاسِ وأملَقُوا»، يَعني: اقتَرَبَ طَعامُهم مِنَ النَّفادِ وافتقَروا واحتاجُوا، حتَّى أقدَمُوا -بسَببِ الجُوعِ- على أن يَذبَحوا بعضَ إبِلِهمُ التي كانت تَحمِلُهم، فأشارَ عُمرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يَجمَعوا ما تَبقَّى مع النَّاسِ مِنَ القُوتِ والطَّعامِ، وأن يَدعُوَ اللهَ أن يُبارِكَ فيه، بدَلًا من ذَبحِ الرَّكائبِ والحَمائلِ منَ الإبلِ، فيَقِلُّ عَددُ الرَّكائبِ، فيُؤثِّرُ ذلك في النَّاسِ، فرَضيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما قالَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه، وأمَرَ النَّاسَ بجَمعِ الطَّعامِ، ودَعا اللهَ أن يُبارِكَ فيه، فأتى كلُّ واحدٍ بما تَبقَّى معه منَ الطَّعامِ، «فَجاءَ ذُو البُرِّ ببُرِّهِ» وهو القَمحُ، «وذُو التَّمْرِ بتَمْرِهِ»، وقالَ مُجاهِدُ بنُ جَبرٍ -أحدُ رُواةِ الحديثِ- في رِوايتِه: «وذُو النَّواةِ بنَواهُ»، أي: جاءَ مَن معه نَوَى البلحِ التي يَكونُ بِداخِلِها، فسألَه طَلحةُ بنُ مُصرِّفٍ: «وما كانوا يَصنعونَ بالنَّوَى؟»، أي: وما كانت فائدتُه وهو ليسَ بطَعامٍ يُؤكَلُ؟ قالَ مُجاهدٌ: «كانوا يَمَصُّونه ويَشْربُون عليه الماءَ» إذا لم يَجِدُوا التَّمرَ، وهذا من ضيقِ الحالِ وشِدَّةِ الفقرِ، وفيه إشارةٌ أنَّ الصَّحابةَ رَضيَ اللهُ عنهم بَذَلوا كلَّ ما كانَ يَملِكونَه ولم يَضِنَّ به أحدٌ على نفسِه.
وبعدَ جَمعِ كلِّ ذلك دعا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الطَّعامِ والزَّادِ المجموعِ بالبَرَكةِ، فبارَكَ اللهُ، حتَّى مَلأ النَّاسُ أوعيتَهم ممَّا فاضَ به ذلك الطَّعامُ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنِّي رَسولُ اللهِ»، فشَهِدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالتَّوحيدِ لله تَعالَى، ولنفسِه بالرِّسالةِ، وأنَّه صادِقٌ فيما جاءَ به من عِندِ مَولاه، وهذه البرَكَةُ دَليلٌ على ذلك؛ لأنَّها من خَوارِقِ العادةِ.
ثُمَّ أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ مَن شَهِدَ لله بالتَّوحيدِ ولمُحمَّدٍ بالرِّسالةِ، وعَمِلَ بمُقتضى ذلك، ثُمَّ ماتَ على ذلك وهو مُتيقِّنٌ من مَعنَيهِما، أدخَلَه اللهُ الجَنَّةَ؛ فأهلُ التَّوحيدِ سَيدخُلون الجَنَّةَ، وإن عُذِّبَ بعضُهم بالنَّارِ بذُنوبِهم فإنَّهم لا يُخلَّدُونَ في النَّارِ.
وفي الحَديثِ: بَيانُ ما كانَ عليه الصَّحابَةُ رضيَ اللهُ عنهم مِنَ الثَّقَةِ والإيمانِ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: مُعجزةٌ ظاهرةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو من أعلامِ نُبُوَّتِه.
وفيه: بَيانُ تَواضُعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حيثُ قَبِلَ رأيَ عمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، وأخَذَ بمَشُورتِهِ.
وفيه: المَشورةُ على الإمامِ بالمَصلحةِ، وإن لم يَتقدَّمِ الاستشارةُ منه.
وفيه: المُواساةُ في الطَّعامِ، وجَمعُه عندَ قِلَّتِه.