باب {وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا}:

بطاقات دعوية

باب {وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا}:
باب {وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا}:
باب {وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا}:
باب {وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا}:

عن سعيد بن جبير قال: [إنا لعند ابن عباس فى بيته إذ قال: سلوني 5/ 232]، قلت: [أي أبا عباس! جعلني الله فداك]؛ إن [بالكوفة رجلا قاصا يقال له:] نوفا البكالى يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بنى إسرائيل ، [إنما هو موسى آخر 1/ 38] ، قال ابن عباس: [قد] كذب عدو الله؛ حدثنى أبى بن كعب أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن موسى قام خطيبا فى بنى إسرائيل، فسئل (وفى رواية: ذكر الناس يوما حتى إذا فاضت العيون، ورقت القلوب؛ ولى، فأدركه رجل، فقال: أى رسول  الله) أي الناس أعلم؟ فقال: أنا [أعلم]. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: [بلى 5/ 234]؛ إن لي عبدا [من عبادي]، بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يا رب! فكيف لي به؟ (وفي رواية: اجعل لي علما أعلم ذلك منه)، قال: تأخذ معك حوتا، فتجعله في مكتل (وفي رواية: خذ نونا ميتا، حيث ينفخ فيه الروح)، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم. فأخذ حوتا، فجعله في مكتل، ثم انطلق، وانطلق معه بفتاه يوشع بن نون، [فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت. قال: ما كلفت كثيرا. فذلك قوله جل ذكره: {وإذ قال موسى لفتاه}؛ حتى إذا أتيا الصخرة؛ [فنزلا عندها، قال: فـ] وضعا رؤوسهما، فناما [في ظل (الـ) صخرة في مكان ثريان]-[وفي حديث غير عمرو: قال:- وفي أصل الصخرة عين يقال لها: الحياة، لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من ماء تلك العين، قال: فتحرك 5/ 234]، واضطرب (وفي رواية: تضرب) الحوت في المكتل، فخرج منه، فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق (وفي رواية: كأن أثره في جحر. وحلق بين إبهاميه واللتين تليانهما)، [وموسى نائم، فقال فتاه: لا أوقظه]، فلما استيقظ؛ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا [يمشيان 4/ 127] بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد؛ قال موسى لفتاه: {آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا}.
قال: ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه: {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا} 

[قال: فوجدا في البحر كالطاق ممر الحوت]. قال: فكان للحوت سربا، ولموسى ولفتاه عجبا، فقال موسى: {ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا}.
قال: رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل (وفي رواية: فوجدا خضرا) [على طنفسة خضراء على كبد البحر] مسجى ثوبا، [قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه]، فسلم عليه موسى، [فكشف عن وجهه]، فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام؟ [من أنت؟] قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؛ قال: نعم. [قال: فما شأنك؟ قال:] أتيتك لتعلمني {مما علمت رشدا}. [قال: أما يكفيك أن التوراة بيديك، وأن الوحي يأتيك؟] {قال إنك لن تستطيع معي صبرا. [وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا]}؟ يا موسى! إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه. فقال موسى: {ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا}. فقال له الخضر: {فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا}.
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، [ليس لهما سفينة]، فمرت [بهما] سفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، [فقالوا: عبد الله الصالح، لا نحمله بأجر}، فحملوه بغير نول -[يقول: بغير أجر]- فلما ركبا في السفينة؛ [وجدا معابر صغارا تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل هذا الساحل الآخر، فـ] لم يفجأ [موسى] إلا والخضر قد [أخذ الفأس، فـ] قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم [وفي رواية: فخرقها، ووتد فيها وتدا]، فقال له موسى: [ما صنعت؟!]

قوم حملونا بغير نول؛ عمدت إلى سفينتهم فخرقتها، {[أخرقتها] لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا} -[قال مجاهد: منكرا]- {قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا. قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا} ".
قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:
"وكانت الأولى من موسى نسيانا، [والوسطى شرطا، والثالثة عمدا] ".
قال: "وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر [بمنقاره]، في البحر نقرة [أو نقرتين]، فقال له الخضر: [والله] ما [نقص] علمي وعلمك [وعلم الخلائق] من [وفي رواية: في جنب] علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور [بمنقاره]، من هذا البحر.
ثم خرجا من السفينة، فبينا هما يمشيان على الساحل؛ إذ أبصر الخضر غلاما [كافرا ظريفا]، يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده، فاقتلعه بيده [هكذا -وأومأ سفيان بأطراف أصابعه، كأنه يقطف شيئا-] [وفي رواية: فأضجعه، ثم ذبحه بالسكين] فقتله، فقال له موسى: {أقتلت نفسا زاكية (وفي رواية: زكية) بغير نفس} [لم تعمل بالحنث -وكان ابن عباس قرأها: {زكية} (زاكية: مسلمة، كقولك: غلاما زاكيا) -] {لقد جئت شيئا نكرا. قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا}. قال: وهذا أشد من الأولى. {قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض} -قال: مائل- فقام الخضر فأقامه بيده [هكذا -وأشار سفيان كأنه يمسح شيئا إلى فوق-] [فاستقام]، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، [عمدت إلى حائطهم]! لو شئت لاتخذت عليه أجرا -[قال سعيد (114) أجرا نأكله. {وكان وراءهم} - وكان أمامهم، قرأها ابن عباس: {أمامهم ملك}، يزعمون عن غير سعيد أنه هدد بن بدد، الغلام المقتول اسمه- يزعمون -:جيسور- {ملك يأخذ كل سفينة غصبا} ، فأردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها، فإذا جاوزوا أصلحوها، فانتفعوا بها، ومنهم من يقول: سدوها بقارورة، ومنهم من يقول: بالقار. {كان أبواه مؤمنين}، وكان كافرا {فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا}: أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه، {فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما}؛ لقوله: {أقتلت نفسا زكية}، {وأقرب رحما}: هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر. وزعم غير سعيد أنهما أبدلا جارية، وأما داود بن أبي عاصم؛ فقال عن غير واحد: إنها جارية 5/ 233 - 234]-قال: {هذا فراق بيني وبينك} إلى قوله: {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} "، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:
" [يرحم الله موسى، لـ] وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما".
قال سعيد بن جبير: فكان ابن عباس يقرأ: {وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا}، وكان يقرأ: {وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين}

في هذا الحديثِ يَحكي سَعيدُ بنُ جُبَيرٍ أنَّه سأَلَ عبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما عن مُوسى صاحبِ الخَضِرِ، وأنَّه قد زَعَمَ نَوْفٌ البِكاليُّ -وهو تابعيٌّ مِن أهلِ دِمَشقَ، فاضلٌ عالِمٌ، لا سيَّما بالإسرائيليَّاتِ، وكان ابنَ زَوجةِ كَعبِ الأحبارِ- أنَّه ليس بمُوسى رَسولِ بَني إسرائيلَ، فكذَّبه ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، وأجاب سَعيدًا بأنَّه هو مُوسى النبيُّ المُرسَلُ إلى بني إسرائيل، ثمَّ أخبَرَه بحَديثٍ عن أُبيِّ بنِ كَعبٍ رَضيَ اللهُ عنه سَمِعَه مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في قِصَّةِ مُوسى عليه السَّلامُ والخَضِرِ، فقد أخبَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه بيْنَما نَبِيُّ اللهِ مُوسَى في جَماعةٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، جاءَهُ رجُلٌ فسَأَلَه: هلْ تَعْلَمُ أحَدًا أعْلَمَ مِنْكَ في الأرضِ؟ فنَفى مُوسَى عليه السَّلامُ بظَنِّه أنْ يُوجَدَ أحدٌ أكثَرُ عِلمًا منه؛ لأنَّه نَبيٌّ ويُوحى إليه، فعَتَبَ اللهُ عليه إذ لم يَرُدَّ العِلمَ إليه، وقيل: جاء هذا تَنبيهًا لمُوسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتَعليمًا لمَن بعْدَه، ولئلَّا يَقتدِيَ به غيرُه في تَزكيةِ نفْسِه والعُجبِ بحالِه، فيَهلِكَ، فأوْحَى اللهُ عزَّ وجلَّ إليه: أنَّه يُوجَدُ مَن هو أعلَمُ منك ممَّن آتاهُ اللهُ عِلمًا مِن عندِه غيرَ ما أوحاهُ لك، وهو عَبْدٌ اسمُه خَضِرٌ، وهو عندَ «مَجْمَع البَحرَينِ»: وهما بَحْرُ فارِسَ مِمَّا يَلي المَشرِقَ، وبَحرُ الرُّومِ مِمَّا يَلي المَغْرِبَ. وَقيلَ: مَجْمَعُ البَحرَينِ عِندَ طَنْجةَ في أقْصى بِلادِ المَغرِبِ.فسَأَلَ مُوسَى: كيف يَصِلُ إلَيْهِ؟ قال اللهُ تعالَى: اطْلُبْه على الساحلِ عندَ الصَّخرةِ، قال: يا ربِّ، كيف لي به؟ قال: تَأخُذُ حُوتًا في مِكتَلٍ -وهو القُفَّةُ- فإذا فقَدْتَ الحُوتَ فارْجِعْ إلى مَوضعِ فقْدِه؛ فإنَّكَ سَتَلْقاهُ، فقِيل: أخَذَ سَمَكةً مَملوحةً، وقال لِفتاهُ: إذا فقَدْتَ الحُوتَ فأخْبِرْني. فلمَّا وَصَلا عِندَ الصَّخْرةِ على البحرِ، وضَعَا رُؤُوسَهُما ونامَا، فخَرَجَ الحُوتُ مِن الوِعاءِ في غَفلةٍ منهما، ودخَلَ في ماءَ البحرِ وذهَبَ، وكان ذلك لِمُوسَى وفَتَاهُ عَجَبًا، حيث إنَّ الحُوتَ رُدَّت إليه الرُّوحُ وانسَلَّ مِن الوِعاءِ ودخَلَ الماءَ، ثمَّ تَوقَّفَ الماءُ به، ثمَّ انْطَلَقا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهما ويَومَهُما، فلمَّا أصْبَحَ قال مُوسَى لِفَتاهُ وخادِمِه يُوشعَ بنِ نُونَ: آتِنَا غَداءَنا لنَأكُلَ؛ فقدْ وجَدْنا تَعَبًا بسَببِ السَّفرِ، ولَمْ يَجِدْ مُوسَى شُعورًا بالتَّعبِ حتَّى تَجاوَزَ المَكانَ الذي أُمِرَ به؛ ليَلْقى الخَضِرَ، فقالَ الخادمُ لِمُوسَى: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}، وذلك أنَّهما بعدَ راحةٍ على البحرِ نَسِيَ الخادِمُ الحوتَ، ثمَّ سارا لفَترةٍ، فلمَّا تَذكَّرَ الفَتى الخادمُ ذلك أخبَرَ به مُوسى عليه السَّلامُ، فقالَ له: «ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا»، فرَجَعَا يَتتبَّعانِ الأثرَ حتَّى وَصَلَا إلى المكانِ الذي فَقَدا فيه الحُوتَ، فوَجَدَا الخَضِرَ وهو مُغطًّى بثَوبِه، فسلَّمَ عليه مُوسى، فقال الخَضِرُ: «وأنَّى بأرْضِكَ السَّلَامُ؟ وهو استفهامُ استبعادٍ يدُلُّ على أنَّ أهلَ تلك الأرضِ لم يَكونوا إذ ذاك مُسلمينَ، وفي روايةٍ عندَ مُسلمٍ: «فقال مُوسى للخَضِرِ: السَّلامُ عليكمْ، فكَشَفَ الثَّوبَ عن وَجْهِه، وقال: وعليكمُ السَّلامُ»، ويُجمَعُ بيْن الرِّوايتينِ بأنَّه استَفْهَمَه بعْدَ أنْ رَدَّ عليه السَّلامَ.فطَلَبَ منه مُوسى عليه السَّلامُ أنْ يَتَّبِعَه؛ ليَتعلَّمَ مِن عِلمِه، ولكنَّ الخَضِرَ أوضَحَ له أنَّه لنْ يَستطيعَ أنْ يَصبِرَ على ما سَيراهُ؛ وذلك لاختلافِ العِلمِ الذي يَعلَمُه كلٌّ منهما، وكلُّه مِن عندِ اللهِ، فوَعَدَه مُوسى عليه السَّلامُ أنَّه سيَتحلَّى بالصَّبرِ، ولنْ يُعقِّبَ معه على شَيءٍ مِن أفعالِه، فمَشَيَا على ساحِلِ البَحْرِ، فمَرَّتْ بهِما سَفِينةٌ، فطَلَبَا مِن أصحابِها أنْ يَحْمِلُوهما، فعَرَفوا الخَضِرَ فحَمَلُوهما بغَيرِ أُجرةٍ إكرامًا له.ثمَّ جاءَ عُصْفُورٌ، فجلَسَ على حَرْفِ السَّفِينةِ، فنَقَرَ بمِنقارِه نَقْرَةً أوْ نَقْرَتَينِ، فأخَذَ مِن ماءِ البَحْرِ، وكان في ذلك مَثلٌ أوضَحَه الخَضِرُ لمُوسى بأنَّ عِلمَ كلِّ واحدٍ منهما لا يُساوي في عِلْمِ اللهِ إلَّا كَنَقْرَةِ هذا العُصْفُورِ في البَحْرِ، ثمَّ نزَعَ الخَضِرُ لَوْحًا مِن ألْوَاحِ السَّفِينةِ يَقصِدُ بذلك أنْ يَعيبَها، فتَعجَّبَ مُوسى عليه السَّلامُ مِن فِعلِه، خاصةً بعدَ إكرامِ أهْلِ السَّفينةِ لهما، وسَأَلَ الخَضِرَ عن سَببِ ذلك، فقال له الخَضِرُ: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}؟ فاعتذَرَ مُوسى عليه السَّلامُ، فكانتِ المرَّةُ الأُولَى مِن مُوسَى نِسْيانًا، ثمَّ خَرَجَا مِن السَّفينةِ، فوَجَدا فتًى صَغيرًا يَلْعَبُ مع الغِلْمَانِ، فأمسَكَ الخَضِرُ برَأْسِهِ مِن أعْلَاهُ، فاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بيَدِهِ، دونَ سَببٍ أو جِنايةٍ واضحةٍ، وهنا تَعجَّبَ مُوسى أيضًا، وخرَجَ مِن شَرْطِ الصَّبرِ، وسَأَلَه مُتعجِّبًا عن ذلك؛ فقد قتَلَ نفْسًا بَريئةً بغَيرِ ذَنْبٍ وبغَيرِ قتْلٍ وقَعَ منها، وهذه المرَّةُ الثانيةُ لعَدَمِ صَبْرِه عليه السَّلامُ، ثمَّ مَشَيَا ودَخَلا قَريةً، فطَلَبوا الطَّعامَ والضِّيافةَ مِن أهْلِهَا، فرَفَضوا، ومع ذلك فإنَّ الخَضِرَ لمَّا وَجَد جِدارًا مائلًا قد قارَبَ على الوُقوعِ، أقَامَهُ وعدَّلَ بِناءَه حتى لا يَسقُطَ، فقال له مُوسَى: لو شِئْتَ لَاتَّخَذتَ عليهِ أجْرًا نَظيرَ بِنائِه، وهذه المرَّةُ الثالثةُ لعَدَمِ صَبْرِ مُوسى عليه السَّلامُ، وكان هذا فِرَاقُ ما بيْنهما، فافتَرَقا بعْدَ أنْ بيَّنَ له الخَضِرُ الحِكمةَ مِن كلِّ ذلك، كما جاء في قولِ اللهِ تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 79 - 82].ثمَّ قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى، لَوَدِدْنا لو صَبَرَ» وهو بَيانٌ لرَغبتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَلتزِمَ مُوسى عليه السَّلامُ بشَرْطِ الصَّبرِ مع الخَضِرِ حتَّى يُقَصَّ عَلَيْنا مِن الأعاجيبِ والغرائبِ التي كانت ستُصاحِبُهما في رِحلتِهما.وقد تَبيَّن لمُوسى عليه السَّلامُ بعْدَ ذلك مَدى عِلمِ الخَضِرِ بما أعلَمَه اللهُ مِن الغُيوبِ وحَوادثِ القُدرةِ، ممَّا لا تَعلَمُ الأنبياءُ منه إلَّا ما أُعلِموا به مِن الخالقِ عزَّ وجلَّ.

وفي الحديثِ: احتمالُ المشقَّةِ في طَلبِ العلمِ.

وفيه: الازديادُ في العِلمِ، وقصْدُ طلبِه، ومَعرفةُ حقِّ مَن عندَه زِيادةُ عِلمٍ، وفَضيلةُ طلَبِ العلمِ، والأدبِ مع العالِمِ. وفيه: لُزومُ التَّواضُعِ في طلَبِ العلمِ، وخِدمةُ طالِبِ العِلمِ لمُعلِّمِه إذا كان أصغَرَ منه.

وفيه: أصلٌ عَظيمٌ مِن الأصولِ الشَّرعيَّةِ، وهو أنَّه لا اعتراضَ بالعقلِ على ما لا يُفهَمُ مِن الشَّرعِ، وأنْ لا تَحسينَ ولا تَقبيحَ إلَّا بالشَّرعِ.

وفيه: الاعتذارُ عندَ المُخالَفةِ.

وفيه: الحُكمُ بالظَّاهرِ حتَّى يَتبيَّنَ خِلافُه.

وفيه: أنَّ الكذِبَ هو الإخبارُ على خِلافِ الواقعِ، عمْدًا أو سَهوًا.

وفيه: إذا تَعارضَتْ مَفسدتانِ يَجوزُ دفْعُ أعظَمِهما بارتكابِ أخَفِّهما.