باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين 3
مختصر صحيح البخاري
عن جابر رضي الله عنه قال: قال [لي 3/ 137] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"لو قد جاءني مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا (ثلاثا 5/ 121)، فلم يجىء حتى قبض النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما جاء مال البحرين [من قبل العلاء بن الحضرمي 3/ 163] أمر أبو بكر مناديا فنادى: من كان له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دين أو [كانت له قبله] عدة؛ فليأتنا، فأتيته، فقلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[قد كان 4/ 65] قال لي كذا وكذا (وفي رواية: وعدني 3/ 137)، فحثا لي ثلاثا- وجعل سفيان يحثو بكفيه جميعا-[فأعطاني ألفا وخمسمائة]، (وفي طريق: فحثا لي حثية، وقال: عدها، فوجدتها خمسمائة. قال: فخذ مثلها مرتين).
وقال مرة: فأتيت أبا بكر (وفي رواية: قال جابر: فلقيت أبا بكر بعد ذلك)،
فسألت فلم يعطني، ثم أتيته فلم يعطني، ثم أتيته الثالثة فقلت: سألتك فلم
تعطني، ثم سألتك فلم تعطني، ثم سألتك فلم تعطني، فإما أن تعطيني وإما أن
تبخل عني. قال: قلت: تبخل علي؟! وأي داء أدوأ من البخل؟! [قالها ثلاثا]،
ما منعتك من مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك.
كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحِبُّ الوَفاءَ بالوعدِ؛ فذلكَ مِنْ أخْلاقِ أهلِ الإيمانِ، وكان ربَّما يَعِدُ أصحابَه -وخاصَّةً ذَوي الحاجاتِ والدُّيونِ- أنْ يُعطِيَهم مِن أموالِ الفيءِ التي تَأتِيه مِن الأمصارِ التي دَخَلَت في الإسلامِ.
وفي هذا الحديثِ يروي جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ قدْ وَعَدَه أنْ لوْ جاءَهُ مِن البَحرينِ مالُ الجِزْيةِ، أعطاهُ «هَكذا وَهَكذا وَهَكذا»، يَعني مِلْءَ كَفَّيْه ثَلاثَ مرَّاتٍ. وكانت البَحرينِ في القَديمِ تُطلَقُ على يَشمَلُ حاليًّا: البَحرينِ، والأحساءَ والقَطيفَ شَرْقَ المملكةِ العربيَّةِ السُّعوديَّةِ، وقدْ بيَّنَت رِواياتٌ أُخرى عندَ البُخاريِّ وغيرِه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أرسَلَ العَلاءَ بنَ الحَضْرميِّ إلى المُنذرِ بنِ ساوَى عامِلِ الفُرسِ على البَحرينِ يَدْعوه إلى الإسلامِ فأسْلَمَ، وصالَحَ مَجوسَ تلك البلادِ على الجِزيةِ، وتلك المرَّةُ التي وَعَدَ فيها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جابرًا بسَهْمٍ مِن جِزيةِ البَحرينِ، لمْ يأْتِ المالُ ولم يَصِلْ إلى المدينةِ إلَّا بعْدَ أنْ ماتَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقُبِضَت رُوحُه، وتَولَّى الخلافةَ بعْدَه أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضيَ اللهُ عنه، فلمَّا جاءَ مالُ البَحرينِ أمَرَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه مُناديًا -قيل: إنَّهُ بِلالٌ- فنادَى: مَن كانَ لهُ عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَينٌ أو وَعْدٌ بمالٍ، فلْيَأتِنا كيْ نُوفِيَهِ حَقَّه، وقدْ أمَرَ أبو بَكرٍ بذلك لعِلمِه بما كان يَفعَلُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن الوُعودِ أو الاستدانةِ لقَضاءِ حَوائجِ النَّاسِ حتَّى يَصِلَ مالُ الجِزيةِ أو الفَيءِ.
فجاء جابرٌ رَضيَ اللهُ عنهُ إلى أبي بكر رَضيَ اللهُ عنهُ، فأخْبَرَه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال له: «كَذا وكَذا»، وهذا كِنايةٌ عمَّا وَعَدَه به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فحَثَا له أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه ثَلاثًا، والحَثْيَةُ: ما أُخِذَ بالكَفِّ مَبسوطةً، وقيلَ: هيَ كالحَفْنةِ، وهيَ ما يَملأُ الكَفَّينِ، وهذا ما فَعَلَهُ راوي الحديثِ سُفيانُ بنُ عُيَينةَ عِندما فَسَّرَ ذلكَ وحَثَا بِكفَّيْهِ جَميعًا.
وفي روايةٍ أنَّهُ جاء إلى أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه وسَأَلَه أنْ يُعطِيَه ثَلاثَ مرَّاتٍ، وفي كلِّ مرَّةٍ لم يُعْطِه، فقال له جابرٌ رَضيَ اللهُ عنه: «فإمَّا أنْ تُعطِيَني، وإمَّا أنْ تَبْخَلَ عَنِّي»، والبُخلُ: هو أنْ يَمنَعَ المرءُ ما يَجِبُ علَيهِ فلا يُؤدِّيهِ، فقالَ لهُ أبو بَكرٍ مُستَنكِرًا: «قُلتَ: تَبخَلُ عنِّي؟ ما منَعْتُكَ مِن مَرَّةٍ إلَّا وأنا أُريدُ أنْ أُعْطيَكَ»، وإنَّما تَأخَّرَ أبو بَكرٍ في إعطائِهِ إمَّا لاشتِغالِهِ بما هُوَ أهمُّ مِن ذلكَ، أو خَشيةَ أنْ يَكثُرَ الطَّالِبونَ لِمثلِ هذا، فمَلَأَ أبو بَكرٍ كَفَّيْه مالًا وطَلَبَ منه أنْ يَعُدَّها، فعَدَّها فوَجَدَها خَمسَ مِئةٍ، قالَ: «فخُذْ مِثلَها مرَّتينِ»، كما وَعَدَهُ رَسولُ اللهِ.
وفي رِوايةٍ أنَّ أبا بَكرٍ قال له: «وأيُّ داءٍ أَدْوأُ مِن البُخْلِ»، أي: أيُّ عَيبٍ ومرَضٍ أقبَحُ مِن أنْ يَتَّصِفَ الإنسانُ بصِفةِ البُخلِ.
وفي الحديثِ: حُسنُ خِلافةِ أَبي بَكرٍ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإقامتُه لسُنَّتِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنفاذُه لوُعودِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: أنَّ للحاكمِ أنْ يُخصِّصَ مِن الفَيءِ جُزءًا لنَوائبِه ونَوائبِ المسلمينَ.
وفيه: قَضاءُ دُيونِ الميِّتِ بعْدَ مَوتِه.