باب: ومن سورة الممتحنة3
سنن الترمذى
حدثنا عبد بن حميد قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا يزيد بن عبد الله الشيباني، قال: سمعت شهر بن حوشب، قال: حدثتنا أم سلمة الأنصارية، قالت: قالت امرأة من النسوة: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ قال: «لا تنحن»، قلت: يا رسول الله إن بني فلان قد أسعدوني على عمي ولا بد لي من قضائهم، فأبى علي، فعاتبته مرارا، فأذن لي في قضائهن، فلم أنح بعد قضائهن ولا غيره حتى الساعة، ولم يبق من النسوة امرأة إلا وقد ناحت غيري: «هذا حديث حسن غريب» وفيه عن أم عطية قال عبد بن حميد: " أم سلمة الأنصارية هي: أسماء بنت يزيد بن السكن "
كانت الصَّحابيَّاتُ رَضِي اللهُ عَنهنَّ إذا أمَرَهنَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أمرًا امتَثَلْن أمرَه، وإذا ظنَنَّ أنَّهنَّ لا يَستَطِعْن فِعلَه ناقَشْنَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؛ لعَلَّهنَّ يَجِدْنَ رُخصَةً أو تَخفيفًا.
وفي هذا الحديثِ تَقولُ الصَّحابيَّةُ الجليلةُ أمُّ سَلمةَ الأنصاريَّةُ رضِيَ اللهُ عنها: "قالَت امرأةٌ مِن النِّسوةِ: ما هذا المعروفُ الَّذي لا يَنبَغي لنا أن نَعصِيَك فيه؟"، أي: قالت امرأةٌ مِن النِّساءِ الصَّحابيَّاتِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لَمَّا نزَل قَولُ اللهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12]، فسَأَلَت المرأةُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عن المقصودِ بقولِه تعالى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}، ما هذا المعروفُ يا رسولَ اللهِ، الَّذي يَجِبُ على إِحْدانا ألَّا تَعصِيَك فيه؟ "قال"، أي: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم للمرأةِ السَّائلةِ: "لا تَنُحْنَ"، أي: نَهاهنَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عن النِّياحةِ، وهي البكاءُ بصَوتٍ عالٍ على الميِّتِ، وتَعديدُ مَناقِبِه، وشِبْهُ ذلك، "قلتُ"، أي: قالت أمُّ سَلمةَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "يا رسولَ اللهِ، إنَّ بَني فُلانٍ"، أي: قومًا مِن العربِ، "قد أَسْعَدوني على عَمِّي"، والإسعادُ هو أن تَذهَبَ المرأةُ إلى امرأةٍ أخرى عندَ موتِ قَريبٍ لها، فتُساعِدَها على النِّياحةِ على ميِّتِها فتَنوحُ معَها، والمعنى: أنَّ أمَّ سلمةَ قالت: إنَّ لي جاراتٍ قد ناحَتْ معي عندَ موتِ عمِّي، "ولا بدَّ لي مِن قَضائِهنَّ"، أي: ويَجِبُ عليَّ أن أذهَبَ إليهِنَّ عِندَ موتِ عزيزٍ لهنَّ، فأُساعِدَهن في النِّياحةِ، فأنوحَ معَهنَّ على ميِّتِهنَّ، وبذلك أكونُ قد قضَيتُ ما عليَّ لهنَّ، "فأبى علَيَّ"، أي: فرَفَض رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أن أذهَبَ فأَقضِيَ ما علَيَّ مِن النِّياحةِ لجاراتي اللَّاتي نُحْنَ معي على عمِّي، "فعاتَبتُه مِرارًا"، أي: فراجَعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مرَّاتٍ كثيرةً في أنْ يَأذَنَ لي، "فأَذِن لي في قَضائِهنَّ"، أي: فأذِن رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لأمِّ سَلمةَ في أن تَذهَبَ فتَقضِيَ ما عليها مِن النِّياحةِ لجاراتِها اللَّاتي نُحْنَ معَها على عمِّها، وكانت تِلْك رُخصةً خاصَّةً لأمِّ سَلمةَ رضِيَ اللهُ عنها، وذلك كما أجاز النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لأبي بُرْدةَ بنِ نِيَارٍ في التَّضحيةِ بالشَّاةِ الَّتي لم تَبلُغْ سِنَّ الأُضحيَّةِ وقال له: ولَن تُجزِئَ عن أحَدٍ بعدَك، أي: وهذه رخصةٌ لك خاصَّةٌ، ولن تتَعدَّى أحَدًا بعدَك، وكان ذلك الإذنُ بالنِّياحةِ قبلَ مُبايَعتِه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فلمَّا ذهَبَت أمُّ سلمةَ، وقضَتْ ما عليها مِن النِّياحةِ بايَعَها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم.
قالَت أمُّ سَلمةَ رضِيَ اللهُ عنها: "فلَم أَنُحْ بعدَ قَضائِهنَّ ولا على غيرِه حتَّى السَّاعةِ"، أي: فلم أعمَلْ بالنِّياحةِ ولم أَشتَرِكْ في نِياحَةٍ على أحدٍ منذ ذلك حتَّى الآنَ، "ولم يَبقَ مِن النِّسوةِ امرأةٌ إلَّا وقد ناحَتْ غَيري"، أي: فلم يَلتَزِمْ مِن النِّساءِ بعدَمِ النِّياحةِ غيري؛ فقد ناحَت النِّساءُ كلُّها بعدَ النَّهيِ عن ذلك إلَّا أنَا؛ فلم أَنُحْ بعدَ ذلك أبَدًا. وقيل: المنهيُّ عنه مِن النِّياحةِ هو ما كان معَه شيءٌ مِن أفعالِ الجاهليَّةِ، كشَقِّ الجيوبِ وخَمْشِ الخدودِ ودَعْوى الجاهليَّةِ، واستَدلُّوا بهذا الحديثِ وحديثِ البُكاءِ على جَعفرِ بنِ أبي طالبٍ.
وفي الحديثِ: النَّهيُ عن النِّياحةِ واتِّباعِ عاداتِ الجاهليَّةِ.