حديث أبي الأحوص عن أبيه 1

مستند احمد

حديث أبي الأحوص عن أبيه 1

حدثنا سفيان بن عيينة، مرتين، قال: حدثنا أبو الزعراء عمرو بن عمرو، عن عمه أبي الأحوص، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فصعد في النظر، وصوب، وقال: «أرب إبل أنت أو رب غنم؟» قال: من كل قد آتاني الله، فأكثر وأطيب، قال: " فتنتجها وافية أعينها وآذانها، فتجدع هذه، فتقول صرما - ثم تكلم سفيان بكلمة لم أفهمها - وتقول: بحيرة الله؟ فساعد الله أشد، وموساه أحد، ولو شاء [ص:465] أن يأتيك بها صرما أتاك ". قلت: إلى ما تدعو؟ قال: «إلى الله وإلى الرحم» . قلت: يأتيني الرجل من بني عمي، فأحلف أن لا أعطيه ثم أعطيه؟ قال: «فكفر عن يمينك، وأت الذي هو خير، أرأيت لو كان لك عبدان أحدهما يطيعك ولا يخونك ولا يكذبك، والآخر يخونك ويكذبك؟» قال: قلت: لا، بل الذي لا يخونني، ولا يكذبني، ويصدقني الحديث أحب إلي. قال: «كذاكم أنتم عند ربكم عز وجل»

الإسلامُ دِينُ التَّوحيدِ وإفرادِ اللهِ سُبحانَه بالعِبادةِ والطَّاعةِ، وقد كان أهلُ الجاهِليَّةِ يَفعَلونَ ما يُنافي هذا التَّوحيدَ، وما يُنافي مُرادَ اللهِ في خَلقِه، فجاءَ الإسلامُ ونَهى عن هذه الأفعالِ الشِّركيَّةِ، وجَعَلَ شَرطَ العِبادةِ أنْ تَكونَ خالِصةً للهِ الخالِقِ، وهَذَّبَ مِن سُلوكيَّاتِ الناسِ وأفعالِهم، ودَلَّهم على ما فيه خَيرُهم في الدُّنيا والآخِرةِ

وفي هذا الحَديثِ يَقولُ مالِكُ بنُ نَضلةَ الجُشَميُّ رَضيَ اللهُ عنه: "أتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فصَعَّدَ فيَّ النَّظَرَ وصَوَّبَ" نَظَرَ إليَّ مُتأمِّلًا ومُتعَجِّبًا مِن حالي، وفي رِوايةٍ: "وأنا قَشِفُ الهَيئةِ" بمَعنى: في هَيئةٍ رَثَّةٍ غَيرِ نَظيفةٍ، وثيابٍ باليةٍ، ثم سألَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: "أرَبُّ إبِلٍ أنتَ أو رَبُّ غَنَمٍ؟" يَسألُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن كَونِه غَنيًّا أو فَقيرًا، مُقارنةً بحالَتِه التي يَظهَرُ فيها، "قال: مِن كُلٍّ قد آتاني اللهُ، فأكثَرَ وأطيَبَ"، فأظهَرَ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه غَنيٌّ ويَتنوَّعُ عِندَه المالُ؛ كالإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ ونَحوِها، وأنَّ اللهَ أفاضَ عليه منها بما هو أفضَلُ الأنواعِ وأجوَدُها، وفي رِوايةِ أبي داودَ، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "فإذا آتاكَ اللهُ مالًا فليُرَ أثَرُ نِعمةِ اللهِ عليكَ، وكرامَتِه" فأمَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُظهِرَ نِعمةَ اللهِ عليه في مَظهَرِه وثيابِه. ثم قال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "فتُنتِجُها وافيةً أعيُنُها وآذانُها" يَعني: أنَّ الإبِلَ في الأصلِ تَكونُ صَحيحةً سَليمةَ الأُذُنِ والأعيُنِ غَيرَ مَجروحةٍ أو مَقطوعةٍ "فتَجدَعُ هذه، فتَقولُ صُرُمًا، وتَقولُ: بَحيرةُ اللهِ؟" والمَعنى: هل تَفعَلُ عادةَ أهلِ الجاهِليَّةِ فتَقولُ: هذه صُرُمٌ وتُحرِّمُها عليكَ وعلى أهلِكَ؟ والصُّرُمُ جَمعُ صَرِيمٍ، وهو القَطعُ، والمَعنى أنَّها مَصرومةٌ ومَقطوعةٌ لا يَنتَفِعُ بها أهلُها؛ تَقرُّبًا لِلأصنامِ، والبَحيرةُ هي الناقةُ التي كانت في الجاهِليَّةِ إذا وَلَدتْ خَمسةَ أبطُنٍ شَقُّوا أُذُنَها، وتَرَكوا الحَملَ عليها، ولم يَركَبوها، ولم يَجُزُّوا وَبَرَها، ولم يَمنَعوها الماءَ والكَلَأ؛ تَقرُّبًا لِلأصنامِ. وفي رِوايةٍ لِأحمدَ: قال مالِكٌ رَضيَ اللهُ عنه: "نَعَمْ"، أي: إنَّه كان يَفعَلُ ذلك، فبَيَّنَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ انتِفاءَ عاداتِ الجاهِليَّةِ، وأنَّ كُلَّ مالِ الإنسانِ حَلالٌ له، ولا يَحرُمُ عليه منه شَيءٌ. ثم قال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُبيِّنًا له خَطَأ هذا الفِعلِ: "فساعِدُ اللهِ أشَدُّ، وموساه أحَدُّ، ولو شاءَ أنْ يأتيَكَ بها صُرُمًا أتاكَ" والمَعنى: لو شاءَ اللهُ أنْ يَخلُقَها ناقِصةَ الأُذُنِ أو مَشقوقَتَها لَفعَلَ ولكِنَّه خَلَقَها كامِلةَ الأعضاءِ؛ فلا يَجوزُ أنْ تَعمِدَ إلى تَشويهِها وقَطعِ عُضوٍ منها. ثم قال مالِكٌ رَضيَ اللهُ عنه لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إلى ما تَدعو؟" ما حَقيقةُ دَعوَتِكَ؟ وبماذا تأمُرُ به أن يُفعَلَ؟ وماذا تَنهى عنه لِيُجتَنَبَ؟ "قال: إلى اللهِ" أدعو إلى عِبادةِ اللهِ وَحدَه، بإخلاصِ كامِلِ العُبوديَّةِ له عَزَّ وجَلَّ، وطَرحِ الشِّركِ "وإلى الرَّحِمِ" وأدعو إلى صِلةِ الأرحامِ، وحُسنِ العِشرةِ بَينَ الناسِ، وهي الصِّلةُ التي تَكونُ بَينَ الشَّخصِ وغَيرِه، والمُرادُ بها هنا: الأقارِبُ، ويُطلَقُ عليهم: أُولو الأرحامِ، "قُلتُ: يأتيني الرَّجُلُ مِن بَني عَمِّي، فأحلِفُ ألَّا أُعطيَه، ثم أُعطيه. قال: فكَفِّرْ عن يَمينِكَ، وَأْتِ الذي هو خَيرٌ" فأمَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأرشَدَه أنْ يَفعَلَ خِلافَ ما أقسَمَ عليه مِنَ القَطيعةِ وعَدَمِ البِرِّ، وأنْ يُقدِمَ على ما فيه خَيرٌ؛ مِنَ العَطاءِ والصِّلةِ والبِرِّ، ثم يَتحلَّلَ مِنَ القَسَمِ الذي أقسَمَه بالكَفَّارةِ، وأن يَفعَلَ الخَيرَ له، وهو إعطاءُ بَني عَمِّه، وقد ذُكِرتْ كَفَّارةُ اليَمينِ على التَّرتيبِ في قَولِه تَعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]. ثم قال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أرأيتَ لو كان لكَ عَبدانِ، أحَدُهما يُطيعُكَ" فيُنفِّذُ أمرَكَ "ولا يَخونُكَ" فلا يَسرِقُ مالَكَ ويَحفَظُ أهلَكَ "ولا يَكذِبُكَ" في الحَديثِ، بل يَصدُقُكَ "والآخَرُ يَخونُكَ ويَكذِبُكَ؟" والمُرادُ: فأيَّهما تُحِبُّ؟ وأيُّهما تَرتَفِعُ مَكانَتُه عِندَكَ؟ "قُلتُ: لا، بلِ الذي لا يَخونُني ولا يَكذِبُني ويَصدُقُني الحَديثَ أحَبُّ إليَّ"؛ لِأنَّه أكثَرُ نَفعًا لي، وأكثَرُ قُربًا إلى قَلبي؛ لِحُسنِ مُعامَلَتِه وحُسنِ صِفاتِه، "قال: كَذاكم أنتُم عِندَ رَبِّكم عَزَّ وجَلَّ" تَرتَفِعُ مَكانَتُكم وتَكونونَ أقرَبَ إليه وأكثَرَ حُبًّا عِندَه إذا أحسَنتُمُ العَمَلَ وأطَعتُموه

وفي الحَديثِ: الحَثُّ على مَكارِمِ الأخلاقِ

وفيه: أنَّ مَن حَلَفَ على شَيءٍ ورأَى غَيرَه خَيرًا منه فلْيَأتِه وليُكفِّرْ عن يَمينِه

وفيه: الحَثُّ على القُربِ مِنَ اللهِ بالطاعاتِ وبَذلِ المَعروفِ