حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه 27
مسند احمد
حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن منصور، قال سمعت ربعي بن حراش، يحدث عن زيد بن ظبيان، رفعه إلى أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله، أما الثلاثة الذين يحبهم الله: فرجل أتى قوما فسألهم بالله ولم يسألهم بقرابة بينهم فمنعوه، فتخلف رجل بأعقابهم فأعطاه سرا لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه، وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به، نزلوا فوضعوا رءوسهم فقام يتملقني ويتلو آياتي، ورجل كان في سرية فلقوا العدو فهزموا، فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح الله له. والثلاثة الذين يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم "
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُربِّي أصْحابَهُ على الفَضائِلِ والبُعدِ عن الرَّذائِلِ، وكثيرًا ما كان يُحذِّرُهُم من سيِّئِ الصِّفاتِ، وقَبيحِ الأعْمالِ، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَديدَ الحِرصِ على كُلِّ ما يُقرِّبُهُم من الآخِرةِ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن سِتَّةِ أصنافٍ وأنواعٍ من الناسِ؛ ثَلاثةُ أنْواعٍ يُحِبُّهُم اللهُ، وحُبُّ اللهِ عزَّ وجلَّ صِفةٌ ثابتةٌ له كما يَليقُ بكَمالِه وجَلالِه، ويَستَلزِمُ حبُّه لهم رِضاهُ عنهم والدُّخولَ في نَعيمِهِ، وثَلاثةٌ آخَرونَ يُبغِضُهُم اللهُ، وصِفةُ بغضِ اللهِ تعالى لِمَن يستحقُّه صِفةٌ ثابتةٌ له كما يَليقُ بكَمالِه وجَلالِه، وبُغضُهُ عزَّ وجلَّ لهم يَستَلزِمْ عُقوبَتَهُ لهم ونُزولَ عَذابِهِ بهم؛ فـ"أمَّا الثَّلاثةُ الَّذين يُحِبُّهم اللهُ: فرَجُلٌ أتَى قَومًا فسَأَلَهم باللهِ" طَلَبَ منهم العَطاءَ لوَجْهِ اللهِ وهو مُحتاجٌ، "ولم يَسأَلْهم بقَرابةٍ بيْنَهم فمَنَعوهُ" فلم يُعْطوهُ "فتَخلَّفَ رَجُلٌ بأعْقابِهِم" بعدَ ذَهابِهِم "فأعْطاهُ سِرًّا، لا يَعلَمُ بعَطِيَّتِهِ إلَّا اللهُ، والَّذي أعْطاهُ" فكانتْ صَدَقَتُه لوَجهِ اللهِ، وأعْطاها له سِرًّا.
والنَّوعُ الثَّاني الَّذي يُحِبُّهُ اللهُ "قَومٌ سارُوا لَيْلَتَهُم" مُسافِرينَ وسائِرينَ "حتَّى إذا كان النَّومُ أحَبَّ إليهم "، أي: أطيَبَ وألَذَّ "ممَّا يُعدَلُ به" من كُلِّ شَيءٍ يُقابَلُ ويُساوى بالنَّومِ بسَبَبِ ما نزَلَ بهم من التَّعَبِ "نَزَلوا فوَضَعوا رُؤوسَهُم" وناموا، أمَّا هو "فقامَ يَتَملَّقُني" يَتَواضَعُ لديَّ، ويَتَضرَّعُ إليَّ بالدُّعاءِ والمَسْأَلةِ والصَّلاةِ، "ويَتْلو آياتي" فيَقرَأَ ألْفاظَها ويُتبِعُها بالتَّأمُّلِ في مَعانيها.
والنَّوعُ الثَّالِثُ الَّذي يُحِبُّهُ اللهُ هو "رَجُلٌ كان في سَريَّةٍ" وهي جُزءٌ من الجَيشِ يُرسَلُ في مَهمَّةٍ "فلَقُوا العَدُوَّ فهُزِموا" والمُرادُ هزَمَ العَدُوُّ أصْحابَهُ، "فأقبَلَ بصَدْرِهِ" بشَجاعةٍ غَيرِ مُدبِرٍ؛ "حتَّى يُقتَلَ" فيَفوزَ بالشَّهادةِ "أو يَفتَحَ اللهُ له" بالنَّصرِ على الأعْداءِ.
وهؤلاءِ الثَّلاثةُ قد اجتَمَعَ لهم مُعامَلةُ اللهِ سِرًّا فيما بيْنَهم وبيْنَه، مع الإخلاصِ والصِّدقِ، والمُحِبُّونَ للهِ يُحِبُّونَ ذلِكَ أيضًا عِلمًا منهم وباطِّلاعِهِ عليهم، ومُشاهَدَتِهِ لهم، فهم يَكتَفونَ بذلِكَ؛ لأنَّهم عَرَفوهُ، فاكْتَفَوا به من بيْنِ خَلْقِهِ، وعامَلوهُ فيما بيْنَه وبيْنَهم مُعامَلةَ الشَّاهِدِ غَيرِ الغائِبِ، وهذا مقامُ الإحسانِ.
"والثَّلاثةُ الَّذين يُبغِضُهُم اللهُ: الشَّيخُ الزَّاني" ويُرادُ بالشَّيخِ كَبيرُ السِّنِّ وهو ضِدُّ الشَّابِّ، ويُرادُ به المُحصَنُ الذي هو ضِدُّ البِكرِ، وقد وقَعَ في فاحِشةِ الزِّنا، مع أنَّه قد بلَغَ من الرُّشدِ والعَقلِ وذَهابِ الشَّهْوةِ ما يُردِعُهُ عن ذلِكَ، ولكِنَّه فعَلَ الفاحِشةَ.
والنَّوعُ الثَّاني المُستَحِقُّ لِكُلِّ تِلك العُقوبةِ: "والفَقيرُ المُخْتالُ" وهو رَجُلٌ فَقيرٌ مُتكبِّرٌ مُتغَطرِسٌ يَتكبَّرُ على الخَلْقِ بلا داعٍ ولا رادِعٍ؛ لأنَّ الإنسانَ قد يَتَكبَّرُ بمالِهِ أو جاهِهِ وسُلطانِهِ وقُوَّتِهِ، أمَّا الفَقيرُ الَّذي هو عالةٌ على غَيرِهِ، فلا سبَبَ يَجعَلُهُ يَتكبَّرُ، بل كان الأحْرى به التَّواضُعَ للهِ وبيْنَ النَّاسِ،
والثالثُ: "والغنيُّ الظَّلومُ" كَثيرُ الظُّلمِ في المَطْلِ وغَيرِهِ؛ وسَبَبُ كُرهِ اللهِ له: أنَّه تَوَفَّرَتْ له أسْبابُ القُوَّةِ والتَّمْكينِ من النِّعْمةِ والمالِ فليس بحاجةٍ إلى الظُّلمِ.
وهذه الخِصالُ في هَؤلاءِ الثَّلاثةِ أشَدُّ مَذَمَّةً، وأكثَرُ نُكْرةً؛ ولذلِكَ خُصُّوا هُنا بالذِّكْرِ .