حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه22
مسند احمد
حدثنا إسماعيل، حدثنا الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير، عن ابن الأحمسي، قال: لقيت أبا ذر، فقلت له: بلغني عنك أنك تحدث حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أما إنه لا تخالني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما سمعته منه، فما الذي بلغك عني؟ قلت: بلغني أنك تقول: "ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يشنؤهم الله " قال: قلت: وسمعته. قلت: فمن هؤلاء الذين يحب الله؟ قال: "الرجل يلقى العدو في الفئة فينصب لهم نحره حتى يقتل، أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض، فينزلون فيتنحى أحدهم، فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم، والرجل يكون له الجار يؤذيه جواره، فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن " قلت: ومن هؤلاء الذين يشنؤهم الله؟ (1) قال: "التاجر الحلاف، أو قال: البائع الحلاف، والبخيل المنان، والفقير المختال " (2)
العُصاةُ والمُذنِبونَ يَتفاوَتونَ بحَسَبِ الدَّواعِي الحامِلةِ لهم على ارتِكابِها؛ فمَنِ ارتَكَبَها مع ضَعْفِ الدَّاعي دَلَّ على أنَّ في نَفْسِه مِنَ الشَّرِّ الذي يَستَحِقُّ به مِنَ الوَعيدِ ما لا يَستَحِقُّه غَيرُه مِمَّن قَويَ داعي المَعصيةِ عِندَه.
وفي هذا الحَديثِ يَقولُ ابنُ الأحْمَسيِّ: "بَلَغَني أنَّ أبا ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه" بمعنى: حَدَّثَه أحَدُهم بحَديثٍ عن أبي ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه، يَقولُ فيه: "ثَلاثةٌ يُحِبُّهمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وثَلاثةٌ يَشنَؤُهمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ" أيْ: يُبغِضُهمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، والمُرادُ: أنَّ هناك ثَلاثةَ أصنافٍ مِنَ الناسِ يَحصُلونَ بصِفاتِهم على مَحبَّةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وثَلاثةَ أصنافٍ آخرينَ يَحصُلونَ بصِفاتِهم على بُغضِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، قالَ ابنُ الأحمَسيِّ: "فلَقيتُه" قابَلَ ابنُ الأحمَسيِّ أبا ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه مُستَفسِرًا منه عن هذا الحَديثِ، وتَوضيحِ أصحابِ تلك الصِّفاتِ السِّتِّ، "فقُلتُ: يا أبا ذَرٍّ، ما حَديثٌ بَلَغَني عنكَ تُحدِّثُ به عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ" قالَ ذلك مُتَعجِّبًا ومُستَفهِمًا عن حَقيقةِ هذا الحَديثِ، ثم قال: "أحبَبتُ أنْ أسمَعَه منكَ؟ قال" أبو ذَرٍّ مُستَفهِمًا: "ما هو؟" الحَديثُ الذي تَستَفهِمُ عنه وتُريدُ أنْ تَسمَعَه، "قُلتَ: ثَلاثةٌ يُحِبُّهمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وثَلاثةٌ يَشنَؤُهمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ. قال أبو ذَرٍّ: قُلتُه وسَمِعتُه" بمعنى: نَعَمْ، حَدَّثتُ به وسَمِعتُه مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. "قُلتُ: مَنِ الذين يُحِبُّهمُ اللهُ؟ قالَ: رَجُلٌ لَقيَ فئةً أو سَريَّةً" والسَّريَّةُ هي الجُزءُ مِنَ الجَيشِ يُرسَلُ في مُهِمَّةٍ، "فانكَشَفَ أصحابُه" ظَهَرَ فيهم ما يَهزِمُهم أمامَ عَدُوِّهم، "فلَقِيَهم بنَفْسِه ونَحْرِه حتى قُتِلَ" سَبَقَ وهَجَمَ على الأعداءِ دونَ خَوفٍ لِيَقتُلَهم حتى استُشهِدَ، "أو فَتَحَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ" بالنَّصرِ على العَدوِّ؛ فيَكونُ قد فازَ بإحدى الحُسنَيَيْنِ، فيَفوزُ بالشَّهادةِ أو يَفتَحُ اللهُ له بالنَّصرِ على الأعداءِ؛ وهذا الصِّنفُ الأوَّلُ، والصِّنفُ الثاني هو: "ورَجُلٌ كان مع قَومٍ، فأطالوا السُّرَى" سافَروا لَيلًا وأطالوا فيه، "حتى أعجَبَهم أن يَمَسُّوا الأرضَ" حتى نَزَلوا عن دَوابِّهم في آخِرِ اللَّيلِ لِيأخُذوا قِسطًا مِنَ الرَّاحةِ، والنَّومُ أحَبُّ إليهم مِن أيِّ شَيءٍ بسَبَبِ ما نَزَلَ بهم مِن تَعَبِ السَّفَرِ، "فنَزَلوا، فتَنَحَّى" في جانِبٍ مِنَ القَومِ "فصَلَّى" فجَعَلَ هو يُصَلِّي ويَتقَرَّبُ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ ويَتضَرَّعُ إليه، "حتى أيقَظَ أصحابَه لِلرَّحيلِ" لِيَستَكمِلوا طَريقَ سَفَرِهم، وهو كِنايةٌ عن تَركِه الرَّاحةَ؛ حُبًّا في الصَّلاةِ والتَّنفُّلِ للهِ عَزَّ وجَلَّ، والصِّنفُ الثَّالِثُ هو: "ورَجُلٌ كانَ له جارُ سَوْءٍ" كانَ يُؤذيه، وهذا مِمَّا يَكونُ أشَدَّ على الإنسانِ في المَكانِ الذي يَعيشُ فيه، "فصَبَرَ على أذاه حتى يُفَرِّقَ بَينَهما مَوتٌ أو ظَعنٌ" صَبَرَ على أذى هذا الجارِ السَّيِّئِ حتى يَكونَ المَوتُ أوِ الرَّحيلُ مِنَ المَكانِ هو المُفَرِّقَ بَينَهما، وهذا حَثٌّ ودَعْوى إلى عَدَمِ الدُّخولِ في نِزاعٍ مع هذا النَّوعِ مِنَ الجِيرانِ مُتكَلِّفًا معه الصَّبرَ حتى يَأتيَ فَرَجُ اللهِ، وفي رِوايةٍ لِأحمَدَ: "فرَجُلٌ أتى قَومًا فسألَهم باللهِ، ولم يَسألْهم بقَرابةٍ بَينَهم، فمَنَعوه، فتَخَلَّفَ رَجُلٌ بأعقابِهم فأعطاه سِرًّا لا يَعلَمُ بعطِيَّتِه إلَّا اللهُ، والذي أعطاه". قالَ ابنُ الأحمَسيِّ: "قُلتُ: هؤلاء الذين يُحِبُّهمُ اللهُ، فمَنِ الذين يَشنَؤُهم؟ قالَ: التَّاجِرُ الحَلَّافُ، أوِ البائِعُ الحَلَّافُ -شَكَّ الجَريريُّ، وهو سَعيدُ بنُ إياسٍ مِن رُواةِ الحَديثِ-" وكِلتاهما صِيغةُ مُبالَغةٍ، فأفادَ ذلك أنَّه اعتادَ هذا الأمْرَ وأكثَرَ منه في تِجارَتِه؛ لِيُنفِقَ سِلعَتَه بالأيْمانِ، فيَتَهاونُ بأيْمانِ اللهِ ويُغرِّرُ المُشتَريَ؛ وهذا الصِّنفُ الأوَّلُ مِنَ الذين يُبغِضُهمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، والصِّنفُ الثاني: "والبَخيلُ المَنَّانُ" وهو الذي يَبخَلُ بمالِه، ولا يُنفِقُ منه -كما يُحِبُّ اللهُ- بالصَّدَقاتِ، وعَمَلِ البِرِّ، وإذا أنفَقَ منه شَيئًا فإنَّه يَمُنُّ على الآخِذِ، والصِّنفُ الثالِثُ: "والفَقيرُ المُختالُ"، وهو الفَقيرُ المُتكَبِّرُ المُعجَبُ بنَفْسِه، والاختِيالُ والتَّكبُّرُ مَنهيٌّ عنهما، وخُصَّ الفَقيرُ مع أنَّه مُحَرَّمٌ على الغَنيِّ أيضًا، إلَّا أنَّه مِنَ الفَقيرِ أقبَحُ؛ إذِ الفَقرُ يَقتَضي الانكِسارَ والذِّلَّةَ والمَسكَنةَ؛ فالتَّكبُّرُ منه أقبَحُ مِنَ التَّكبُّرِ مِنَ الغَنيِّ. وفي الحَديثِ: إثباتُ صِفَتَيِ الحُبِّ والبُغضِ للهِ عَزَّ وجَلَّ. وفيه: بَيانُ فَضيلةِ الإحسانِ إلى الجارِ، والصَّبرِ على أذاه. وفيه: بَيانُ فَضلِ الجِهادِ والتَّضحيةِ بالنَّفْسِ في سَبيلِ اللهِ.
وفيه: تَحذيرٌ مِنَ الأخلاقِ السَّيِّئةِ، مِثلَ البُخلِ والكَذِبِ والحَلِفِ الكاذِبِ.