حديث أبي عنبة الخولاني 2
مستند احمد
حدثنا أبو المغيرة، قال: حدثنا ابن عياش، قال: حدثني شرحبيل بن مسلم الخولاني، قال: «رأيت سبعة نفر خمسة قد صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، واثنين قد أكلا الدم في الجاهلية، ولم يصحبا النبي صلى الله عليه وسلم، فأما اللذان لم يصحبا النبي صلى الله عليه وسلم فأبو عنبة الخولاني، وأبو فالج الأنماري»
المُبايَعةُ هي المعاهَدةُ على الإسلامِ والتَّعهُّدُ بِالتزامِ أحكامِه، وسُمِّيَت مُبايَعةً؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مِن المُتبايعينِ كان يمُدُّ يَدَه إلى صاحبِه، ولِما فيها مِن المعاوَضةِ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى قال: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، فكانت هذه بَيعةً مع اللهِ عزَّ وجلَّ
وفي هذا الحديثِ يَرْوي عوْفُ بنُ مالكٍ الأشجعيُّ رَضِي اللهُ عنه أنَّه كان عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في جمْعٍ مِن الصَّحابةِ كانوا قدْ بايَعوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم منذُ زمَنٍ قَريبٍ، وكانوا تِسْعَةً، أوْ ثَمانِيَةً، أوْ سَبْعَةً، فطلَبَ منهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنْ يُبايِعوه، وبَدَأ حَديثَه بِجَذْبِ الانتِباهِ وتَحفِيزِ العُقولِ بقولِه: «ألَا تُبايِعُونَ رسولَ الله؟» (ألَا) للعَرْضِ، وفيه حَثٌّ على مُبايَعَتِه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وإنَّما قال: «تُبايِعون رسولَ الله» ولم يَقُلْ: (تُبايِعُونني) تَنبِيهًا على أنَّ العِلَّةَ الباعِثةَ على المُبايَعةِ هي الرِّسالةُ. فردَّدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وكرَّر مَقالَتَه المذكورةَ: «ألَا تُبايِعون رَسولَ اللهِ» ثَلاثَ مرَّاتٍ؛ تَأكيدًا عليهم، فمَدُّوا أيدِيَهم بعْدَ المرَّةِ الثَّالثةِ لِلمُبايَعةِ؛ امتِثالًا لأمرِه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فلمَّا أرادوا مُبايَعَته صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، قالوا: «قدْ بايَعْناك يا رَسولَ اللهِ»، وإنَّما قالوا ذلك لِظَنِّهم أنَّه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم نَسِيَ أنَّهم قدْ بايَعُوه قَبْلَ ذلك، حيثُ إنَّهم كانوا قَرِيبِي عهْدٍ بالمُبايَعةِ، فأرادوا تَذكيرَه بذلك، أو أنَّهم أرادوا أنْ يَستَوْضِحوا ما البَيْعَةُ المطلوبةُ منهم الآنَ؟ كما يدُلُّ عليه قولُهم: «فعَلامَ»، أي: على أيِّ شَيءٍ «نُبايِعُك؟» فقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «على أنْ تَعبُدوا اللهَ» وحْدَه وعلى طاعتِه، وألَّا تُشرِكوا به شيئًا مِنَ الشِّركِ الأكبرِ والأصغرِ، والجَلِيِّ والخَفِيِّككتا
والأمرُ الثَّاني: هو المُبايَعَةُ على إقامةِ «الصَّلوات الخَمْس» المفروضاتُ بشُروطِها وأركانِها، ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم «كَلِمَةً خَفِيَّةً»، أي: لم يَجْهَرْ بها كما جَهَرَ بما تَقدَّم، وهذه الكلمةُ الخَفِيَّةُ هي عدَمُ سُؤالِ النَّاسِ شيئًا، وهو حثٌّ على العِفَّةِ، وإفرادِ اللهِ بإنزالِ الحاجاتِ به، وعدَمِ سُؤالِ أحدٍ مِن العِبادِ شيئًا، ويُشبِهُ أنْ يكونَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أَسَرَّ النَّهيَ عن سُؤالِ النَّاسِ؛ لِيَخُصَّ به بعضَهم دونَ بعضٍ ولا يَعُمَّهم بذلك؛ لأنَّه لا يُمكِنُ العُمومُ؛ إذ لا بُدَّ مِن السُّؤالِ، ولا بُدَّ مِن التَّعفُّفِ، ولا بُدَّ مِن الغِنَى، ولا بُدَّ مِن الفَقْرِ، وقدْ قَضَى اللهُ تَبارَك وتعالَى بذلك كلِّه، فلا بُدَّ أنْ يَنقَسِمَ الخَلْقُ إلى الوَجْهَينِ
والمرادُ بالسُّؤالِ المنهيِّ عنه: السُّؤالُ المتعلِّقُ بالأُمورِ الدُّنيوِيَّةِ، فلا يَتناوَلُ السُّؤالَ عن العِلْمِ وأُمورِ الدِّينِ؛ لقولِه تعالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]
وهذا كلُّه تَربِيةٌ رُوحِيَّةٌ، وتَهذِيبٌ نَفْسِيٌّ للمسلمين بأنْ يُفرِدوا ربَّهم بالسُّؤالِ، وفي ذلك عِفَّةٌ لأنفُسِهم، وحَمْلٌ منه صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم على مَكارِم الأخلاقِ والتَّرفُّعِ عن تَحمُّلِ مِنَنِ الخَلْقِ، وتَعليمُ الصَّبرِ على مَضَضِ الحاجاتِ، والاستغناءِ عن النَّاسِ، وعِزَّةِ النُّفوسِ
ثُمَّ قال عَوْفٌ رَضِي اللهُ عنه: «فلقدْ رأيْتُ بعضَ أولئك النَّفَرِ» والمرادُ بهم الصَّحابةُ الَّذين بايَعوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم في تلك الجلسةِ، «يَسقُطُ سَوْطُ أحدِهم، فما يَسأَلُ أحدًا يُناوِلُه إيَّاه»، أي: أنَّ بعضَهم حَمَل النَّهيَ عن السُّؤالِ على العُمومِ، فلم يَكُنْ يَسأَلُ أحدًا أنْ يُناوِلَه أيَّ شَيءٍ سَقَط منه، حتَّى ولو سقَطَ مِن يَدِه وهو راكبٌ على دابَّتِه، فإنَّه يَنزِلُ ويَأخُذُه ولا يَطلُبُ مِن أحدٍ أنْ يُناوِلَه إيَّاهُ؛ امتِثالًا لِمَا بايَعَ عليه النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وهذا فيه دَليلٌ على عِنايتِهم وقِيامِهم بتَنفيذِ ما بُويِعوا عليه على التَّمامِ والكمالِ، حتَّى في هذه الأمورِ اليَسيرةِ
وفي الحديثِ: التَّنفِيرُ مِن سُؤالِ النَّاسِ، والحثُّ على التَّنزيهِ عن جَميعِ ما يُسمَّى سُؤالًا ولو يَسيرًا
وفيه: الأخْذُ بالعُمومِ؛ لأنَّهم نُهُوا عن السُّؤالِ، فحَمَلوه على العُمومِ