حديث أبي موسى الأشعري 13
مستند احمد
حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي موسى الأشعري قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض قومي، فلما حضر الحج حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحججت، فقدمت عليه وهو نازل بالأبطح، فقال لي: «بم أهللت يا عبد الله بن قيس؟» قال: قلت: لبيك بحج كحج رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «أحسنت» ثم قال: «هل سقت هديا؟» فقلت: ما فعلت، فقال لي: «اذهب فطف بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم احلل» . فانطلقت ففعلت ما أمرني، وأتيت امرأة من قومي، فغسلت رأسي بالخطمي وفلته، ثم أهللت بالحج يوم التروية، فما زلت أفتي الناس بالذي أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي، ثم زمن أبي بكر رضي الله عنه، ثم زمن عمر رضي الله عنه، فبينا أنا قائم عند الحجر الأسود أو المقام أفتي الناس بالذي أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاني رجل فسارني، فقال: لا تعجل بفتياك، فإن أمير المؤمنين قد أحدث في المناسك شيئا [ص:263]، فقلت: أيها الناس من كنا أفتيناه في المناسك شيئا، فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم فبه فائتموا، قال: فقدم عمر رضي الله عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين، هل أحدثت في المناسك شيئا؟ قال: نعم، إن نأخذ بكتاب الله عز وجل، فإنه يأمر بالتمام، وإن نأخذ بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يحلل حتى نحر الهدي "
أَنْساكُ الحَجِّ ثَلاثةٌ: التَّمَتُّعُ؛ وهو أنْ يُحْرِمَ الحاجُّ بالعُمْرةِ في أشهُرِ الحجِّ -وهي شَوَّالٌ وذو القَعدةِ، وذو الحِجَّةِ- ثُمَّ يَحِلَّ منها، ثُمَّ يُحْرِمَ بالحَجِّ مِن عامِه. والقِرَانُ؛ وهو أنْ يُحْرِمَ الحاجُّ بالحَجِّ والعُمْرَةِ معًا. والإفْرادُ؛ وهو أنْ يُحْرِمَ الحاجُّ بالحَجِّ فَقَطْ
وفي هذا الحَديثِ يَحكي أبو مُوسى الأشْعَرِيُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَعَثَه إلى قَومٍ باليَمَنِ، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ أرْسَلَه ليَكونَ مُعلِّمًا وقاضيًا لأهْلِها، فرَجَع أبو مُوسى رَضيَ اللهُ عنه والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِبَطْحَاءِ مَكَّةَ وهو مُحرِمٌ بحَجَّةِ الوَداعِ، والبَطحاءُ: مكانٌ ذو حَصًى صَغيرةٍ، وهو في الأصلِ مَسيلُ وادي مكَّةَ، وهو يَقُعُ جَنوبَ الحرمِ الشَّريفِ أمامَ جَبلِ ثَورٍ، ويُقالُ له: الأَبْطَحُ أيضًا
فسَأَلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أبا مُوسى رَضيَ اللهُ عنه: بِمَ أهلَلْتَ؟ والمرادُ بالإهلالِ هنا: قصْدُ النِّيةِ في الإحرامِ، وهو في الأصْلِ رفْعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ، فأجابَه أبو مُوسَى رَضيَ اللهُ عنه أنَّه أهَلَّ كإهلالِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ممَّن ساقَ الهَدْيَ، فقَرَنَ في إحرامِه بيْن العُمرةِ والحجِّ- فسَأَله: هلْ مَعَكَ مِن هَديٍ؟ فأجابَ: لا، والهدْيُ اسمٌ لِما يُهدَى ويُذبَحُ في الحرَمِ مِن الإبلِ والبقَرِ والغنَمِ والمَعْزِ، فأمَرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَطوفَ بالبَيتِ وبالصَّفا والمروةِ، فيكونُ بذلك قدْ أتَّم عُمرةً، ثمَّ أمَرَه أنْ يَحِلَّ مِن إحرامِه، فيُباح له كلُّ شَيءٍ
فأَتَى أبو مُوسى رَضيَ اللهُ عنه امرأةً من قَومِه -وهذا مَحمولٌ على أنَّها كانتْ مَحرَمًا له- فسَرَّحَتْ له شَعرَه بالمُشطِ، أو غَسَلتْ رَأْسَه، ولم يَذكُرِ الحَلْقَ أو التَّقصيرَ؛ إمَّا لكونِه مَعلومًا عندَهُم، أو لدُخولِه في أمْرِه بالإحلالِ
فجاء زَمانُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه وخِلافتُه، فذُكِرَ له ذلك فقالَ: إنْ نَأخُذْ بكِتابِ الله فإنَّه يَأمُرُنا بالتَّمامِ، أي: بإتمامِ أفعالِهما بعْدَ الشُّروعِ فيهما؛ قال اللهُ تعالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وتَأويلُه للآيةِ: هو إفرادُ كلِّ نُسكٍ على حِدَةٍ، واستَشهَدَ رَضيَ اللهُ عنه بقِرانِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّه لم يَحِلَّ مِن إحرامِه حتَّى نَحَرَ الهَدْيَ بمِنًى. وظاهِرُ كَلامِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه هذا إنكارُ فسْخِ الحجِّ إلى العُمرةِ، وليس مُرادُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه بذلكَ مُخالَفةَ القُرآنِ والسُّنَّةِ، وقد رَوَى النَّسائيُّ: أنَّ أبا مُوسى سَأَلَ عُمرَ عن ذلِك، فقال عُمرُ: قد عَلِمْتُ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد فَعَلَه، ولكنْ كَرِهْتُ أنْ يَظلُّوا مُعرِّسينَ بهنَّ في الأراكِ، ثمَّ يَروحوا في الحجِّ تَقطُر رُؤوسُهم، ومعْناه: كَرِهْتُ التَّمتُّعَ؛ لأنَّه يَقتضي التَّحلُّلَ ووَطْءَ النِّساءِ إلى حِينِ الخُروجِ إلى الحجِّ
وقد ثبَتَ في صَحيحِ البُخاريِّ: لَمَّا أمَر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصحابَه بالمُتْعةِ –أي التَّمتُّع-، قال جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما: «وأنَّ سُراقةَ بنَ مالكِ بنِ جُعْشُمٍ لقِيَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو بالعَقَبةِ وهو يَرميها، فقال: ألَكُم هذه خاصَّةً يا رسولَ اللهِ؟ قال: لا، بلْ للأبدِ»
وفي الحَديثِ: اتِّباعُ سُنَّةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ واقتِفاءُ أثَرِه في أفعالِه
وفيه: مَشروعيَّةُ التَّمتُّعِ بالعُمرةِ في أشهُرِ الحجِّ
وفيه: مَشروعيَّةُ الإحرامِ المُبهَمِ، ويَصْرِفُه إلى ما شاءَ مِن أنواعِ النُّسُكِ قبْلَ شُروعِه في أفعالِ النُّسُكِ