حديث البراء بن عازب 50
مستند احمد
حدثنا أبو معاوية، حدثنا الشيباني، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: «اهج المشركين، فإن جبريل معك»
كان العربُ فُصحاءَ اللِّسانِ، وكان للكلامِ الفصيحِ وللشِّعرِ أثرٌ بالغٌ في حَياتِهم؛ فكان يَبلُغُ فيهم مَبلَغًا لا يَبلُغُه أمرٌ آخَرُ، فكان المديحُ يَطِيرُ ويَنتشِرُ بيْنهم يَتفاخَرون به، وكذلك هِجاءُ أحدِهم أشدُّ تَأثيرًا فيه مِن القتلِ، وكانوا يَخافون المَذمَّةَ بالشِّعرِ، وقدْ بَرَز مِن شُعراءِ الإسلامِ مَن له باعٌ في كلِّ ذلك، حتَّى كان لِسانُه وشِعرُه خطَّ دِفاعٍ عن الدِّينِ وعن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
وفي هذا الحديثِ تَرْوي أُمُّ المؤمنينَ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ لِشُعراءِ المسلمِينَ: «اهْجُوا قريشًا» والمرادُ هِجاءُ مِشرِكيها، والهجاءُ هو تَعديدُ المذمَّاتِ والنَّقائصِ؛ وذلك مُجازاةً لِهجائهِم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وللإسلامِ، وهذا ليْس فُحشًا ولا أمرًا بالفَحشاءِ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بل المقصودُ نِكايةُ المشْرِكين وكَفُّ أذيَّتِهم بهَجْوهِم المسْلِمين؛ لأنَّهم إذا عَلِموا أنَّهم يُجابُون عن قولِهم كَفُّوا، ولذلك بيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لشُعراءِ المسْلِمين أنَّ الهِجاءَ والسَّبَّ أصعَبُ على مُشْرِكي قُرَيشٍ وأكثَرُ تأثيرًا فيهم مِن رَشقِ النَّبلِ فيهم، وأصعَبُ في قُلوبِهم بانكسارِها مِن رَميِ السِّهامِ إليهم دَفعةً واحدةً
فَأرسَلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أوَّلًا إلى الشَّاعرِ عبدِ اللهِ بنِ رَواحةَ الأنصاريِّ رَضيَ اللهُ عنه، فأمَرَه أنْ يقولَ فيهم الشِّعرَ، دفاعًا عن المسْلِمين، فَهجَاهم عبدُ اللهِ بنُ رَواحةَ رَضيَ اللهُ عنه، فلم يَرْضَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهِجائهِ إيَّاهم ولم يُعجِبْه ولم يَشْفِه، فَأرسلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الشَّاعرِ كَعبِ بنِ مالكٍ الأنصاريِّ رَضيَ اللهُ عنه، فجاءَ وأمَرَه أنْ يقولَ فيهم شِعرًا يَهْجوهم به، ففَعَل، فلم يُرضِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هِجاؤه إيَّاهم ولم يَشْفِه
ثُمَّ أرسلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المرَّةِ الثَّالثةِ إلى الشَّاعرِ حسَّانَ بنِ ثابتٍ الأنصاريِّ رَضيَ اللهُ عنه، فلمَّا جاء حسَّانُ رَضيَ اللهُ عنه ودخَلَ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المسجِدِ، قال حسَّانُ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولمَن حوْلَه مِن الصَّحابةِ: «قدْ آنَ لكم» أي: قدْ حان الوقتُ، «أنْ تُرسِلُوا إلى هذا الأسدِ» يَقصِدُ لِسانَه، «الضَّاربِ بِذَنَبِه»، أي: الَّذي يُحرِّكُ ذَنَبَه وذَيْلَه يمينًا وشمالًا؛ لاغتياظِه وغَضبِه، فشَبَّه لِسانَه في انتقامِه وبَطشِه بالأسدِ إذا ضَرَب واغتاظَ، وقولُه: «ثُمَّ أدْلَعَ لِسانَهُ» أي: أَخرَجَه مِن فمِه، فَجَعَلَ يُحرِّكُه كأنَّه يَعُدُّه للإنشادِ وقَولِ الشِّعرِ، وهو بهذا يَمتدِحُ نفْسَه، وفيه بيانٌ لاستعدادهِ وتَمكُّنِه مِن هِجائهِم
فقالَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «والَّذي بَعثَكَ بِالحقِّ لَأَفْرينَّهم بِلساني فَرْيَ الأديمِ»، أي: لَأُمزِّقنَّ أعراضَهم وأُقطِّعُها كما يُقطَّعُ الأديمُ، وهو الجِلدُ بعْدَ الدِّباغِ؛ فإنَّه يُقطَعُ خِفافًا ونِعالًا وغيرَ ذلك، فقال له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لا تَعجَلْ» أي: في هَجْوِهم حتَّى تَسألَ أبا بَكرٍ عن نَسَبي فيهم؛ وذلك أنَّ أبا بكرٍ رَضيَ اللهُ عنه أعلمُ قريشٍ بِأنسابِها، وقُرَيشٌ قَبيلةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأمَرَه أنْ يَذهَبَ إلى أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه «حتَّى يُلَخِّصَ لكَ نَسبي» أي: يُعرِّفَك ويُوضِّحَ لكَ خُلاصةَ نَسَبي فيهم وقَرابتي منهم، وذلك حتَّى لا يَسُبَّ نَسَبَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَن جَهلٍ أو سُوءِ قصْدٍ؛ لأنَّه منْهم ونسَبُه فيهم، فذَهَب حسَّانُ رَضيَ اللهُ عنه إلى أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فذَكَر أبو بَكرٍ له خُلاصةَ نَسبِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيهم
ثُمَّ رجَعَ حسَّانُ رَضيَ اللهُ عنه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأخبَرَه أنَّ أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه قدْ بيَّن ووضَّحَ له نَسَبه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ أقسَمَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قسَمًا مؤكَّدًا فقال: «والَّذي بعثَكَ بِالحقِّ، لَأسلَّنَّك منهم»، أي: لَأخلِّصَنَّ نَسبَكَ مِن نَسبِهم بحيثُ يَختَصُّ الهجاءُ بهم دُونكَ، كما تُسَلُّ الشَّعرةُ مِنَ العجينِ؛ لأنَّ الشَّعرةَ إذا سُلِّتْ منه لا يَعلَقُ بها منه شَيءٌ لِنعومِتها، ولا يَبْقى شَيءٌ منها في العجينِ
ثمَّ أخبَرَت عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّها سَمِعتْ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ لِحسَّانَ: «إنَّ رُوحَ القُدُسِ» وهو جِبريلُ عليه السَّلامُ، لا يَزالُ يُؤيِّدُكَ ويُقوِّيك ويُساعِدُك ويُلهِمُك ما دافعْتَ بشِعرِكَ عَنِ اللهِ ورسولِه
ثمَّ أخبَرَت عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّها سَمِعَتْه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «هَجاهِم» أي: المشْرِكين «حسَّانُ فشَفَى» المؤمنينَ والألمَ الَّذي أحْدَثَه هُجومُ المشْرِكين في الإسلامِ والمسْلِمين، وعالَجَه بهِجائهِ إيَّاهم، «واشْتَفى» هو بِنفسِه وأصابَ شِفاءً لغَيظِ صَدرِه بثَأرِه منهم بما نالَ مِن أعراضِهم
وممَّا قاله حسَّانُ رَضيَ اللهُ عنه في شِعرِه مُخاطِبًا أبا سُفيانَ بنِ الحارثِ، ابنَ عَمِّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وذلك قبْلَ إسلامِه- وكان ممَّن هَجا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «هَجَوْتَ» أي: شَتَمتَ يا أبا سُفيانَ «محمَّدًا، فَأجبْتُ عنه» عن هِجائكَ إيَّاه، «وعِندَ اللهِ في ذاك الجزاءُ»، أي: وأَجْرِي وثَوابي على ذاكَ الجوابِ عندَ ربِّي ومُدخَّرٌ لي عندَ اللهِ تعالَى، «هَجَوتَ» أي: سَبَبتَ «محمَّدًا برًّا» يَفعَلُ البِرَّ، وهو واسعُ الخيرِ والإحسانِ لعبادِ اللهِ، الَّذي مِن أجَلِّه الدَّعوةُ إلى التَّوحيدِ، وهو مِن البِرِّ، وهو اسمٌ يَجمَعُ الخيرَ كلَّه، ويكونُ البِرُّ أيضًا بمَعنى المنزَّهِ عن المآثِمِ، «تَقيًّا»، أي: مُمتثِلًا لأوامرِ اللهِ تعالَى ومُجتنِبًا نَواهيَه، ولا يَأتي إلَّا ما يُرضِي ربَّه. «رسولَ اللهِ» الَّذي أرسَلَه رَحمةً للعالَمِين، وبَعَثَه ليُخرِجَ النَّاسَ مِن الظُّلماتِ إلى النُّورِ، «شِيمتُه الوفاءُ»، وشِيمتُه: خُلُقُه وسَجيَّتُه وسَليقَتُه وجِبلَّتُه، الوفاءُ بالوعدِ، ضِدُّ الغدرِ والخديعةِ
ثمَّ ذكَرَ حسَّانُ رَضيَ اللهُ عنه سَببَ تَولِّيهِ الإجابةَ والدِّفاعَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فأظْهَرَ حُبَّه الشَّديدَ له، وأنَّه يَفْدِيه بأغلى النَّاسِ وأغْلى ما يَخافُ عليه، فقال: «فَإنَّ أبي وَوالدَه وعِرْضِي»، وعِرضُ الرَّجلِ: حسَبُه وما يُحمَدُ عليه إذا وُجِدَ، أو يُذمُّ عليه إذا انْتُقِصَ، أو العِرضُ هنا هو الحُرمةُ الَّتي تُنتهَكُ بالسَّبِّ والغِيبةِ، وقدْ يَعني بالعِرضِ هنا النَّفْسَ. «لِعِرضِ محمَّدٍ منكم وِقاءُ»، والوقاء ما وَقَيتَ به الشَّيءَ. والمعنى: فإنَّ أبي وجَدِّي ونَفْسي وِقايةٌ وسِتارةٌ لنفْسِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منكم وفِداءٌ لها
«ثَكِلْتُ بُنَيَّتِي إنْ لم تَرَوْها» أي: فقَدْتُ ابْنَتي، وهو دُعاءٌ على ابنتِه بالموتِ، وتُقرَأُ أيضًا: «بِنْيَتِي» أي: فقَدْتُ نَفْسي؛ فالبِنْيَةُ بمعنى النَّفْسِ، «إنْ لم تَرَوْها» الضَّميرُ عائدٌ على الخيلِ، وإنْ لم تُذكَرْ في الكلامِ، لكنْ يُفسِّرُها الحالُ والمشاهَدةُ، «تُثيرُ النَّقْعَ مِن كَنَفَيْ كَداءِ»، أي: تُهيِّجُ الغبارَ وتَرفعُه مِن جَانِبَيْ كَداءَ، وهو طَريقُ الْحَجُونِ بأعلى مكَّةَ بيْن مَقبرةِ الحَجونِ والعتيبيَّةِ
وجاء هذا البيتُ في دِيوانِ حسَّانَ هكذا: «عَدِمْنا خَيْلَنا إنْ لم تَرَوها ... تُثيرُ النَّقعَ مَوعِدُها كَداءُ» وهو حَينئذٍ سَليمٌ عن الإضمارِ للخَيلِ قبْلَ ذِكرِها، فيكونُ المعنى: فقَدْتُ ابْنَتي -أو نَفْسي، أو الخيولَ- بمَوتِها إنْ لم تَرَوا أيُّها المشْرِكون خُيولَ المسْلِمين مُثيرةً للغُبارِ حَوالَي مكَّةَ للإغارةِ عليكم
«يُبَارِينَ» أي: يَأكُلْنَ بأضراسِهنَّ «الأعِنَّةَ» جَمعُ عِنانٍ، وهو سَيرُ اللِّجامِ الَّذي تُمسَكُ به الدَّابَّةُ، يعني أنَّ الخيولَ -لقُوَّتِها في نفْسِها وصَلابةِ أضراسِها- تُشبِهُ الحديدَ الَّذي صُنِع منه مُقدِّمةُ لِجامِها، ويُمكِنُ أنْ يكونَ المعنى: يُضاهِينَ الأعِنَّةَ في انعطافِها ولِينِها، أو تَبارِيها في عَلْكِها لها في قوَّةِ أضْراسِها ورُؤوسِها، ويُغالِبْنَ قوَّةَ الحديدِ في ذلكَ
«مُصْعداتٍ»، أي: يُسابِقْنَ اللِّجامَ مُتقدِّمَاتٍ إلى مكَّةَ، مُقبِلاتٍ إليكم ومُتوجِّهاتٍ، وفيه مُبالغةٌ لِسرعَةِ الخيولِ وشِدَّةِ اندفاعِها
«على أكتافِها» وأكتافُ الخيولِ هو ما فوقَ اليدَينِ مِنَ الظَّهْرِ، أي: قُدَّامَ الظَّهْرِ، و«الأَسَلُ الظِّماءُ» هي الرِّماحُ المُتعطِّشَةُ لِدمائِهم، وهي مَمدودةٌ على أكتافِ الخيولِ
«تَظلُّ جِيادُنا مُتمطِّراتٍ»، أي: تظلُّ خُيولُنا مُسرعاتٍ طُولَ النَّهارِ يَسبِقُ بعضُها بعضًا، وتَظَلُّ مُبلَّلةً بالعرَقِ لشِدَّةِ جَرْيِها وعَدْوِها، «تُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ» التلطُّمُ: هو ضرْبُ الوجهِ، والخُمُر: الثَّوبُ الَّذي تُغطِّي به المرأةُ رأْسَها، أي: إنَّ خيْلَ المسْلِمين تَتبَعُ العدُوَّ مُسرِعةً في سَيرِها، حتَّى إنَّ نِساءَ العدوِّ يَلْطُمْنَ وُجوهَها بخُمرِهنَّ ليَردُّوها عن أنفُسِهنَّ.
«فإنْ أَعرضَتُمو عنَّا اعتمَرْنا»، أي: إنْ لم تُقاتِلونا حِينما نَأتي نَقصِدُ البيتَ الحرامَ لِلعمرةِ، أدَّينا العُمرةَ وأتْمَمْنا عَمَلَها، وظاهرُ هذا أنَّ حسَّانَ قال هذه القصيدةَ قبْلَ الفتحِ في عُمرةِ الحُديبيةِ حِين صَدُّوا رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن البيتِ، ولذلك قال: «وَكَانَ الفَتْحُ وَانْكَشَفَ الغطاءُ» أي: وقَعَ فتحُ مكَّةَ العظيمُ بعْدَ الحُدَيبيةِ، وزال الحِجابُ عمَّا وعَدَ اللهُ به نَبيَّه مِن فتْحِ مكَّةَ. «وإلَّا» أي: وإنْ لم تُعرِضوا عنَّا وعن صَدِّنا عن بَيتِ اللهِ تعالَى ودُمْتُم على صَدِّكم إيَّانا؛ فَاصبِروا على شِدَّةِ بَطشِنا وضِرابِ سُيوفِنا في «يومٍ يُعزُّ اللهُ فيه» ويَنصُرُ «مَن يشاءُ»، وهذا إيمانٌ مِن حسَّانَ رَضيَ اللهُ عنه بأنَّ اللهَ سيُعِزُّ نَبيَّه ويَنصُرُه، كما قال اللهُ تعالَى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]
«وقال اللهُ» في كتابِه ما معناه: «قدْ أرسَلْتُ عبدًا» مِن عِبادي إلى المكلَّفِين كافَّةً، وهو رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الَّذي «يقولُ الحقَّ» ويَدْعو للدِّينِ الحقِّ الواضحِ الَّذي «لَيْسَ به خَفاءُ» ولا إشكالَ، فهو يُبلِّغُ ما أُنزَلَ إليه مِن ربِّه، كما قال تعالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]
«وقال اللهُ» في كِتابِه ما مَعناه: «قدْ يَسَّرْتُ جُندًا» فهَيَّأتُهم وأَرْصدتُهم وسَخَّرْتُهم مع ذلك العبدِ المُرسَلِ، «همُ الأنصارُ» ومعم المهاجِرون، ولم يَذكُرِ المهاجِرين صَراحةً؛ لأنَّهم لم يَظهَرْ لهم أمرٌ إلَّا عندَ اجتماعِهم مع الأنصارِ، أو تَرَكَهم لضِيقِ النَّظْمِ الشِّعريِّ، وإلَّا فإنَّهم أوَّلُ مَن آمَنَ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتَحمَّلوا المشاقَّ وجاهَدوا معه، «عُرْضَتُها اللِّقاءُ»، أي: مَقصودُها ومَطلوبُها القتالُ والجهادُ في سَبيلِ اللهِ ولِقاءُ المشْرِكين؛ لإعزازِ دِينِ اللهِ ونُصرتِه مع نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
«لنا في كلِّ يومٍ مِن مَعَدٍّ»، أي: لنا نحْنُ الأنصارَ في كلِّ يومٍ مِن أيَّامِ المعاركِ مع بَني مَعَدِّ بنِ عَدْنانَ، يعني قُرَيشًا؛ لأنَّهم مِن نَسلِ مَعَدِّ بنِ عَدْنانَ، «سِبابٌ» بالكلامِ والنَّثرِ «أو قتالُ» بالسَّيفِ «أو هجاءُ» بالشِّعرِ والنَّظمِ
«فَمنْ يَهجو» ويَشتُمُ «رَسولَ اللهِ منكم» كأبي سُفيانَ بنِ الحارثِ ومُشرِكي مكَّةَ «ويَمْدَحُه» منكم بلِسانِه «ويَنصُرُه» بسَيفِه «سواءُ» يعني أنَّ الأمرَ مُتساوٍ؛ لأنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن العزَّةِ والشَّرفِ بمكانٍ لا يَضُرُّه هِجاؤكم، ولا يَنفَعُه مَدحُكم ونَصْرُكم؛ لأنَّكم مِن الهوانِ بحيثُ لا يُعبَأُ بِكم، وهو مِن العزَّةِ والشَّرفِ والمنَعةِ والوَجاهةِ بحيْثُ لا يُنالُ منه ولا يُرْتقى إليه
«وجِبريلٌ رسولُ اللهِ» الَّذي يَنزِلُ مِن اللهِ بالوحيِ مَوجودٌ معنا يُؤيِّدنا بالنَّصرِ مِن عندِ اللهِ، «ورُوحُ القُدسِ» وهو جِبريلُ عليه السَّلامُ، والقُدسُ: الطُّهْرُ والبرَكةُ، وسُمِّي جِبْريلُ بذلك لأنَّه خُلِق مِن الطُّهْرِ. وسُمِّيَ بالرُّوحِ؛ لأنَّه يأْتي بالبَيانِ عن اللهِ تعالَى، فتَحْيا به الأرواحُ، «ليس له كِفاءُ»، أي: ليْس له مُمَاثِلٌ ومُقاوِمٌ يُكافِئُه ويُقاوِمُه عندَ النَّصرِ ويُدافِعُه عندَ المُقاوَمةِ والمقاتَلةِ
وفي الحديثِ: أنَّ الكافرَ المحارِبَ لا حُرمةَ لِعِرضِه، كما أنَّه لا حُرمَة لِمالِه، ولا لِدمِه، وأنَّه يُتعرَّضُ لِنكايتِهم بِكلِّ ما يُؤلِمُهم مِنَ القولِ والفعلِ
وفيه: أنَّ مِنَ الدِّينِ والمروءةِ أنْ يَحرِصَ الإنسانُ على سُمعةِ آبائِه وأجدادِه، وأنْ يَغارَ على نَسبِه ويَحمِيَه مِن أنْ يَعيبَه أحدٌ
وفيه: فضْلُ حسَّانَ بنِ ثابتٍ رَضيَ اللهُ عنه، وقدرَتُه الشِّعْريَّةُ العجيبةُ على حُسنِ التَّصرُّفِ في المديحِ والهجاءِ
وفيه: هِجاءُ المشْرِكين المعْتَدِين بكلِّ ما يُقدَرُ عليه، وسَبُّهم في وُجوهِهم، وأنَّه لا غِيبةَ لكافرٍ
وفيه: استخدامُ الوسائلِ المباحةِ لنَشرِ دَعوةِ المسْلِمين وللرَّدِّ على الكفَّارِ المعانِدِين للإسلامِ وأهْلِه بما فيه نِكايةٌ لهم ومُدافَعةٌ لشَرِّهم