حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم 32

مستند احمد

حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم 32

 حدثنا سفيان، قال: حفظته من أبي فروة أولا، ثم من مجالد، سمعه من الشعبي، يقول: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [ص:335]، وكنت إذا سمعته يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أصغيت، وتقربت، وخشيت أن لا أسمع أحدا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، من ترك ما اشتبه عليه من الإثم، كان لما استبان له أترك، ومن اجترأ على ما شك فيه، أوشك أن يواقع الحرام، وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله في الأرض معاصيه» أو قال: «محارمه»

هذا الحديثُ الجليلُ هو أحدُ الأحاديثِ الَّتي عليها مَدارُ الإسلامِ؛ فهو حَديثٌ عظيمٌ، وأصلٌ مِن أُصولِ الشَّريعةِ، وهو مِن جَوامعِ كَلِمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حثَّ فيه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الورَعِ، وترْكِ المُتشابهاتِ في الدِّينِ، وبيَّنَ أنَّ الحَلالَ ظاهرٌ واضحٌ، وهو كلُّ شَيءٍ لا يُوجدُ دَليلٌ على تَحريمِه؛ مِن كتابٍ أو سُنَّةٍ، أو إجماعٍ أو قياسٍ؛ وذلك لأنَّ الأصلَ في الأشياءِ الإباحةُ، وكذلك الحرامُ ظاهرٌ واضحٌ، وهو ما دلَّ دَليلٌ على تَحريمِه، سواءٌ كان هذا الدَّليلُ مِن الكِتابِ، أو مِن السُّنَّةِ، أو مِن الإجماعِ. وبيَّنَ أنَّ بيْن الحلالِ والحرامِ قِسمًا ثالثًا، وهو المُشتبِهاتُ، وهي الأمورُ الَّتي تكونُ غيرَ واضحةِ الحُكمِ مِن حيثُ الحِلُّ والحُرمةُ، فلا يَعلَمُ الكثيرُ هل هي حَلالٌ أو حَرامٌ، ويَدخُلُ في ذلك جَميعُ الأُمورِ المشكوكِ فيها؛ مِثل: المالِ المَشبوهِ أو المَخلوطِ بالرِّبا، أو غيرِه مِن الأموالِ المُحرَّمةِ، أمَّا إنْ تأكَّدَ أنَّ هذا مِن عَينِ المالِ الرِّبويِّ، فإنَّه حَرامٌ صِرفٌ دونَ شكٍّ، ولا يُعَدُّ مِن المُشتبِهاتِ. ثمَّ أوضَحَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ مَن اجتنَبَ المُشتبِهاتِ فقدْ طلَبَ البَراءةَ لنفْسِه، فيَسلَمُ له دِينُه مِن النَّقصِ، وعِرضُه مِن القدْحِ والذِّمِّ والسُّمعةِ السَّيِّئةِ، أمَّا مَن وقَع في الشُّبهاتِ واجترَأَ عليها، فقد عرَّض نفْسَه للخطَرِ، وأوشَكَ على الوُقوعِ في الحرامِ، كراعٍ يَرعَى حولَ الحِمَى، وهو: المكانُ الَّذي جَعَله الملِكُ لرَعْيِ مَواشِيه، وتوعَّدَ مَن رعَى فيه بغيرِ إذنِه بالعُقوبةِ الشَّديدةِ؛ فالرَّاعي حولَ الأرضِ الَّتي حَماها الملِكُ لنفْسِه، وجعَلَها خاصَّةً له، قد تَدخُلُ ماشيتُه في الحِمى، فيَستحِقُّ عُقوبةَ السُّلطانِ، كذلك مَن يَتهاونُ بالشُّبهاتِ، فإنَّه على خَطَرٍ؛ لأنَّها ربَّما كانت حَرامًا، فيقَعُ فيه، وأنَّه ربَّما تَساهَلَ في الشُّبهاتِ فأدَّى به ذلك إلى الاستهتارِ واللَّامبالاةِ، فيَقَعُ في الحرامِ عمْدًا؛ فإنَّ الشُّبهةَ تجُرُّ إلى الصَّغيرةِ، والصَّغيرةُ تجُرُّ إلى الكبيرةِ، نَسأَلُ اللهَ السَّلامةَ.ثمَّ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ألَا وإنَّ لكلِّ ملِكٍ حِمًى، ألَا وإنَّ حِمى اللهِ مَحارمُه»، أي: إنَّ حِمَى اللهِ هي المعاصي الَّتي حرَّمها على عِبادِه، فمَن دخَلَ حِماهُ بارتكابِ شَيءٍ مِن المعاصي هلَكَ، ومَن قارَبَه بفِعلِ الشُّبهاتِ كان على خطَرٍ.ثم ذَكَر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كَلمةً جامعةً لصَلاحِ حرَكاتِ بَني آدَمَ وفَسادِها، وهي أنَّ أساسَ صلاحِ الجَسدِ كُلِّه وأساسَ فسادِه مبنيٌّ على صلاحِ القَلْبِ وفَسادِه؛ فإذا صلَحَ القلبُ صلَحَت إرادتُه، وصلَحَت جَميعُ الجوارحِ، فلم تَنبعِثْ إلَّا إلى طاعةِ اللهِ، واجتنابِ سَخَطِه، فقَنِعَتْ بالحلالِ عن الحرامِ، وإذا فسَد القلبُ فسَدَت إرادتُه، ففسَدَتِ الجوارحُ كلُّها، وانبعثَتْ في مَعاصي اللهِ عزَّ وجلَّ، وما فيه سَخَطُه، ولم تَقنَعْ بالحلالِ، بلْ أسرَعَتْ في الحرامِ بحسَبِ هَوى القلبِ ومَيلِه عنِ الحقِّ