حديث حصين بن محصن عن عمة له
مستند احمد
حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: أخبرني رجل يقال له ربيعة بن عباد من بني الديل، وكان جاهليا قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز، وهو يقول: " يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا ". والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه، أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فذكروا لي نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لي: هذا عمه أبو لهب
في هذا الحَديثِ يقولُ طارقُ بنُ عبدِ اللهِ المُحاربيُّ: "رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مرَّتَينِ: مرَّةً بسُوقِ ذي المَجازِ"، وهو: اسمُ سُوقٍ للعَرَبِ في الجاهِلِيَّةِ كانَ إلى جانِبِ عَرَفةَ، وقيلَ: في مِنًى، "وأنا في بِياعةٍ لي -هكذا قالَ- أبيعُها" مَكانٌ ومحلٌّ يَعمَلُ فيه بالبَيعِ والشِّراءِ، فمرَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعليه حُلَّةٌ حَمْراءُ، وهو يُنادي بأعْلى صَوتِهِ: يا أيُّها النَّاسُ، قُولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ، تُفلِحوا" اشْهَدوا أنَّه لا مَعْبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ، وأفْرِدوه بالعِبادةِ، وذلِكَ قَبلَ هِجْرتِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المَدينةِ، "ورجُلٌ يَتبَعُهُ بالحِجارةِ" يَقذِفُهُ بالأحْجارِ من خَلفِهِ، "وقد أدْمى كَعبَيهِ وعُرقوبَيهِ"، وأسالَ الدَّمَ من مُؤخِّرةِ قَدَميهِ، "وهو يقولُ: يا أيُّها النَّاسُ، لا تُطيعوهُ؛ فإنَّه كذَّابٌ"، هذا الرَّجُلُ يَضرِبُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالحِجارةِ، ويَنْهى النَّاسَ عن طاعَتِهِ، والاستِماعِ لِقَولِهِ، ويدَّعي أنَّه كذَّابٌ، "قُلتُ: مَن هذا؟ فقالوا: هذا غُلامُ بَني عَبدِ المُطَّلِبِ"، يَقصِدُ أنَّ الدَّاعيَ إلى التَّوحيدِ هو مُحمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "قُلتُ: مَن هذا الَّذي يَتبَعُهُ يَرميهِ؟ قالوا: هذا عمُّهُ عبدُ العُزَّى- وهو أبو لَهَبٍ-" وهو الَّذي نَزَلَتْ فيه سُورةُ المَسَدِ توعُّدًا بالعَذابِ له لِشِدَّةِ ما وقَعَ منه من إيذاءِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فلمَّا ظهَرَ الإسلامُ" انتَصَرَ وقَوِيَتْ شَوكَتُهُ، "وقَدِمَ المدينةَ" وبَعدَ أنْ هاجَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى المَدينةِ المنوَّرةِ، "أقبَلْنا في رَكبِ من الرَّبَذةِ وجَنوبِ الرَّبَذةِ"، وهي قَرْيةٌ بالباديةِ تقَعُ إلى الجَنوبِ الشَّرقيِّ من المدينةِ النَّبويَّةِ بحوالَيْ 200 كيلو مترٍ، "حتَّى نَزَلْنا قريبًا من المدينةِ ومَعَنا ظَعينةٌ لنا"، وهي امرَأةٌ مُسافِرةٌ، "قالَ: فبيْنَما نحنُ قُعودٌ" في مَكانِنا خارِجَ المدينةِ "إذْ أتانا رجُلٌ عليه ثَوبانِ أبيَضانِ، فسلَّمَ فرَدَدْنا عليه"، وهذه تحيَّةُ الإسلامِ "فقالَ: مِن أينَ أقبَلَ القَومُ؟ قُلْنا: من الرَّبَذةِ، وجَنوبِ الرَّبَذةِ، قال: ومَعَنا جَمَلٌ أحمَرُ، قال: تَبيعوني جَمَلَكم هذا؟ قُلْنا: نَعَمْ، قال: بِكَمْ؟ قُلْنا: بكذا وكذا صاعًا من تَمرٍ"، والصَّاعُ: أربعةُ أمْدادٍ، والمُدُّ مِقدارُ ما يَملَأُ الكَفَّينِ، وتَقْديرُهُ المُعاصِرُ الشَّائِعُ 2751 جرامًا "قالَ: فما استَوضَعْنا شَيئًا"، ولم يَطلُبْ تَقْليلَ السِّعرِ وتَخْفيضَهُ "وقالَ: قد أخَذتُهُ، ثم أخَذَ برَأسِ الجَمَلِ حتَّى دخَلَ المدينةَ، فتوارَى عنَّا" اختَفَى عن أعيُنِنا "فتَلاوَمْنا بيْنَنا" ووجَّهَ بعضُنا اللَّومَ والعِتابَ لِبَعضٍ "وقُلْنا: أعطَيتُمْ جَمَلَكم مَن لا تَعْرِفونَهُ، فقالتِ الظَّعينةُ: لا تَلاوَموا؛ فقد رأيتُ وَجهَ رجُلٍ ما كان لِيَحقِرَكُم" ليس من صِفَتِهِ أنَّه يَخدَعُكم ويأخُذُ أمْوالَكُم، "رَأيتُ وَجهَ رَجُلٍ أشبَهَ بالقَمَرِ لَيلَةَ البَدْرِ من وَجهِهِ" مِن شِدَّةِ جَمالِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فلمَّا كان العَشيُّ"، وهو وَقتُ العِشاءِ، والمُرادُ به أوَّلُ اللَّيلِ، "أتانا رجُلٌ فقالَ: السَّلامُ عليكم، أنا رَسولُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليكم: وإنَّه أمَرَكُم أنْ تَأكُلوا مِن هذا حتى تَشبَعوا، وتَكْتالوا حتى تَسْتَوفوا" وتَكيلوا حقَّكُم، وثَمَنَ جَمَلِكم؛ حتَّى تأخُذوهُ كامِلًا "قاَل: فأَكَلْنا حتَّى شَبِعْنا، واكْتَلْنا حتَّى استَوْفَيْنا، فلمَّا كانَ من الغَدِ" مِن صَباحِ اليَومِ التَّالِي، "دَخَلْنا المدينةَ، فإذا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائِمٌ على المِنبَرِ يَخطُبُ النَّاسَ وهو يقولُ: يَدُ المُعْطي العُلْيا" يَدُ المُنفِقِ هي الأعْلَى قدْرًا ومَقامًا، وأكْثرُ أجرًا من يَدِ الآخِذِ، ثمَّ رتَّبَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أوْلوياتِ النَّفَقةِ؛ فقالَ: "وابْدَأْ بمَنْ تَعولُ"، وابدَأْ في الإنفاقِ بمَن يَلزَمُك النَّفَقةُ عليهم، فاكْفِهِم ما يَحتاجونَهُ من قُوتٍ وكِسوةٍ، وهذا يَشمَلُ نَفَقةَ نفْسِهِ وعِيالِهِ؛ لأنَّها مُنحصِرةٌ فيهم "أُمَّكَ وأباكَ، وأُختَكَ وأخاكَ، وأدْناكَ أدْناكَ"، أي: الأقرَبَ فالأقربَ رَحِمًا
وقد وردَتِ الآثارُ الصَّحيحةُ في فَضْلِ الصَّدقاتِ والنَّفقاتِ، وفي تَرتيبِ الأيادي المُعطيةِ والآخِذةِ، ومُحصِّلةُ ذلك: أنَّ أعْلى الأيدي هي: المُنفِقةُ، ثمَّ المُتعفِّفةُ عن الأخْذِ، ثمَّ الآخِذةُ بغَيرِ سُؤالٍ، وأسفَلُ الأيادي: السَّائِلةُ، والمانِعةُ.
ثُمَّ قالَ طارِقٌ المُحارِبيُّ: "فقامَ رَجُلٌ من الأنْصارِ فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، هؤلاء بَنو ثَعْلبةَ بنِ يَرْبوعٍ الَّذينَ قَتَلوا فُلانًا في الجاهِلِيَّةِ" مِن أحَدِ أقاربِه "فخُذْ لنا بثَأْرِنا"، يُطالِبُ الرَّجُلُ بالقِصاصِ لدَمِ قَتيلِهِ الَّذي قَتَلوهُ قَبلَ أنْ يُسلِموا "فرفَعَ يَدَيهِ حتَّى رَأَيْنا بَياضَ إبْطَيهِ "، وهذا بيانٌ لِمُبالغَتِهِ الشَّديدةِ في الرَّفعِ "فقالَ: ألَا لا يَجْني والِدٌ على وَلَدِهِ" لا تتَعدَّى جِنايةُ الأبِ إلى ولَدِهِ، بل كُلٌّ يُجازَى بجِنايَتِهِ لا يَحمِلُها عنه غَيرُهُ؛ لأنَّه لا تَزِرُ وازرةٌ وِرزَ أُخرى
وفي الحَديثِ: إشْعارٌ بالتَّرفُّعِ والتَّعفُّفِ عن أخْذِ الصَّدَقاتِ من النَّاسِ دُونَ داعٍ
وفيهِ: بَيانُ فضْلِ الصَّدقةِ عن ظَهْرِ غِنًى، وبما فَضَلَ من المالِ، وبعدَ استيفاءِ النَّفَقاتِ الواجبةِ
وفيهِ: بَيانُ بَعضِ شَمائِلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّه كان جَميلَ الوَجهِ مِثلَ القَمَرِ