ذكر ما يجوز شربه من الأنبذة، وما لا يجوز 5
سنن النسائي
أخبرنا واصل بن عبد الأعلى، عن ابن فضيل، عن الأعمش، عن يحيى بن أبي عمر، عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبذ له نبيذ الزبيب من الليل، فيجعله في سقاء، فيشربه يومه ذلك والغد، وبعد الغد، فإذا كان من آخر الثالثة سقاه أو شربه، فإن أصبح منه شيء أهراقه»
شَدَّدَ الإسلامُ في النَّهيِ عن شُربِ الخَمرِ، وجَعَلَ أقَلَّ قَدْرٍ منها مُحرَّمًا، وجَعَلَ السَّبَبَ في الشَّرابِ المُحرَّمِ هو الإسكارَ، قَلَّ أو كَثُرَ ذلك الشَّرابُ
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ يَحيى بنُ عُبَيدٍ النَّخَعيُّ عن عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: "أتاه قَومٌ فسألوه عن بَيعِ الخَمرِ وشِرائِه والتِّجارةِ فيه" ما حُكمُها مِن حيثُ الحِلُّ والحُرمةُ؟ ولَعَلَّ سُؤالَهم إنَّما هو لِظَنٍّ منهم أنَّ النَّهيَ الوارِدَ إنَّما هو لِلشُّربِ فقط، "فقال ابنُ عَبَّاسٍ: أمُسلِمونَ أنتم؟" ولَعلَّ هذا السُّؤالَ لِيَعلَمَ حَقيقةَ دِينِهم؛ لِيُعلِّمَهمُ الحُكمَ الصَّحيحَ في الإسلامِ، "قالوا: نَعَمْ" فأجابوه بأنَّهم مُسلِمونَ "قال: فإنَّه لا يَصلُحُ بَيعُه ولا شِراؤُه ولا التِّجارةُ فيه لِمُسلِمٍ"؛ لِأنَّ اللهَ حَرَّمَ عَينَها، وحَرَّمَ رَسولُه كُلَّ ما يَتعَلَّقُ بها، والمُسلِمُ يَمتَثِلُ ما أمَرَ به اللهُ ورَسولُه مِنَ اجتِنابِ كُلِّ ذلك، "وإنَّما مَثَلُ مَن فَعَلَ ذلك منهم" بأنِ امتَنَعَ عن شُربِ الخَمرِ، ولكِنَّه تَحايَلَ وعَمِلَ فيما يَتعلَّقُ بها بالبَيعِ أوِ الشِّراءِ، "مَثَلُ بَني إسرائيلَ، حُرِّمتْ عليهمُ الشُّحومُ" وهي دُهونُ الحَيَواناتِ المَذبوحةِ، "فلم يأكُلوها، فباعوها وأكَلوا أثمانَها" وهذا تَحايُلٌ على حُكمِ اللهِ، فلم يَنتَفِعوا بعَينِ الشَّحمِ، إنَّما انتَفَعوا بثَمَنِه، وقد بَيَّنتِ الرِّواياتُ الأُخرى أنَّهم أذابوا الشُّحومَ وخَلَطوها ثم باعوها، وإنَّما فَعَلوا ذلك لِيَزولَ عنها اسمُ الشَّحمِ، ويُحدِثوا لها اسمًا آخَرَ، وهو الوَدَكُ، وذلك لا يُفيدُ الحِلَّ. قال يَحيى بنُ عُبَيدٍ: "ثم سألوه عنِ الطِّلاءِ" وهو الشَّرابُ المَطبوخُ مِنَ العِنَبِ حتى يَجمُدَ ويَتماسَكَ، "قال ابنُ عَبَّاسٍ: وما طِلاؤُكم هذا الذي تَسألونَ عنه؟ قالوا: هذا العِنَبُ يُطبَخُ ثم يُجعَلُ في الدِّنانِ" وهي الآنيةُ الكَبيرةُ، "قال: وما الدِّنانُ؟ قالوا: دِنانٌ مُقَيَّرةٌ" مَطليَّةٌ بالقارِ مِنَ الدَّاخِلِ أوِ الخارِجِ "قال: أيُسكِرُ؟ قالوا: إذا أُكْثِرَ منه أسكَرَ. قال: فكُلُّ مُسكِرٍ حَرامٌ"؛ فبَيَّنَ أنَّ العِلَّةَ في تَحريمِ أيِّ مَشروبٍ هي الإسكارُ، "ثم سألوه عنِ النَّبيذِ؟" وهو مَشروبٌ يُصنَعُ بأنْ يُوضَعَ الزَّبيبُ أوِ التَّمرُ في الماءِ، ويُشرَبُ نَقيعُه قَبلَ أنْ يَختَمِرَ ويُصبِحَ مُسكِرًا، "قال: خَرَجَ نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سَفَرٍ، فرَجَعَ وناسٌ مِن أصحابِه قدِ انتَبَذوا نَبيذًا في نَقيرٍ" وهو جِذعُ النَّخلةِ، يُنقَرُ ويُجوَّفُ وَسَطُه، فيُتَّخَذُ منه وِعاءٌ "وحَناتِمَ" وهي الآنيةُ المَطليَّةُ بالقارِ "ودُبَّاءٍ" وهو نَباتُ اليَقطينِ إذا يَبِسَ اتُّخِذَ وِعاءً "فأمَرَ بها فأُهريقَتْ" وأُفرِغَتْ مِمَّا فيها مِنَ النَّبيذِ، ولَعلَّ ذلك لِمَا وُجِدَ مِن تَغيُّرٍ في الشَّرابِ، لا لِأصلِ مادَّةِ الأواني؛ لأنَّه قد ثَبَتَ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إجازةُ استِخدامِ هذه الأواني، "وأمَرَ بسِقاءٍ" وهو قِربةٌ مِنَ الجِلدِ، "فجُعِلَ فيه زَبيبٌ وماءٌ" مَخلوطَيْنِ، وكان ذلك لِتَحليةِ الماءِ؛ لِأنَّ ماءَ المَدينةِ كان مالِحًا بَعضَ الشَّيءِ، "فكانَ يُنبَذُ له" يُنقَعُ "مِنَ اللَّيلِ" فيُترَكُ طيلةَ مُدَّةِ اللَّيلِ "فيُصبِحُ فيَشرَبُه يَومَ ذلك ولَيلَتَه التي يَستَقبِلُ، ومِنَ الغَدِ حتى يُمسيَ، فإذا أمسَى فشَرِبَ وسَقى" فيَكونُ بذلك قد أبقاه لَيلَتَيْنِ يَشرَبُ منه، "فإذا أصبَحَ منه شَيءٌ" بَعدَ اللَّيلتَيْنِ "أهراقَه" فسَكَبَه؛ لِأنَّه قد يَشتَدُّ ويُسكِرُ. وفي حَديثٍ آخَرَ لِابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: "كانَ يُنبَذُ لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فيَشرَبُه يَومَه ذلك، والغَدَ، واليَومَ الثالِثَ، فإنْ بَقيَ منه شَيءٌ أهراقَه، أو أمَرَ به فأُهريقَ"، فجَعَلَ أقصَى حَدٍّ لِبَقاءِ النَّبيذِ ثَلاثةَ أيَّامٍ؛ وذلك لِأنَّ النَّبيذَ يَشتَدُّ ويَتخَمَّرُ، فيُلقى ولا يُشرَبُ؛ فالمَشروعُ هو شُربُ الطَّيِّبِ الذي لا يُسكِرُ، والمَنهيُّ عنه مِن ذلك هو كُلُّ ما يُذهِبُ العَقلَ ويُسكِرُه مِن كُلِّ الأشرِبةِ
وفي الحَديثِ: أنَّ ثَمَنَ الحَرامِ حَرامٌ، وأنَّه لا يَسوغُ التأويلُ فيه؛ تَوصُّلًا إلى الانتِفاعِ بما حَرَّمَ اللهُ تَعالى منه