في غزوة ذي قرد

بطاقات دعوية

في غزوة ذي قرد

عن إياس بن سلمة حدثني أبي قال قدمنا الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن أربع عشرة مائة وعليها خمسون شاة لا ترويها قال فقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جبا الركية (4) فإما دعا وإما بسق (5) فيها قال فجاشت فسقينا واستقينا قال ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعانا للبيعة في أصل الشجرة قال فبايعته أول الناس ثم بايع وبايع حتى إذا كان في وسط من الناس قال بايع يا سلمة قال قلت قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس قال وأيضا قال ورآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزلا يعني ليس معه سلاح قال فأعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجفة أو درقة ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال ألا تبايعني يا سلمة قال قلت قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس وفي أوسط الناس قال وأيضا قال فبايعته الثالثة ثم قال لي يا سلمة أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك قال قلت يا رسول الله لقيني عمي عامر عزلا فأعطيته إياها قال فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال إنك كالذي قال الأول اللهم أبغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض واصطلحنا قال وكنت تبيعا (1) لطلحة بن عبيد الله أسقي فرسه وأحسه (2) وأخدمه وآكل من طعامه وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - قال فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فكسحت شوكها فاضطجعت في أصلها قال فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى وعلقوا سلاحهم واضطجعوا فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي يا للمهاجرين قتل ابن زنيم قال فاخترطت سيفي ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثا (3) في يدي قال ثم قلت والذي كرم وجه محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه قال ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز يقوده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فرس مجفف في سبعين من المشركين فنظر إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه فعفا عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله عز وجل (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) الآية كلها قال ثم خرجنا راجعين إلى المدينة فنزلنا منزلا بيننا وبين بني لحيان جبل وهم المشركون فاستغفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن رقي هذا الجبل الليلة كأنه طليعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قال سلمة فرقيت تلك الليلة مرتين أو ثلاثا ثم قدمنا المدينة فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهره مع رباح غلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه وخرجت معه بفرس طلحة أند به (4) مع الظهر فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستاقه أجمع وقتل راعيه قال فقلت يا رباح خذ هذا الفرس فأبلغه طلحة بن عبيد الله وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المشركين قد أغاروا على سرحه (5) قال ثم قمت على أكمة فاستقبلت المدينة فناديت ثلاثا يا صباحاه ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز أقول أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع فألحق رجلا منهم فأصك سهما في رحله (6) حتى خلص نصل السهم إلى كتفه قال قلت خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع قال فوالله ما زلت أرميهم وأعقر بهم (7) فإذا رجع إلي فارس أتيت شجرة فجلست في أصلها ثم رميته فعقرت به حتى إذا تضايق الجبل فدخلوا في تضايقه علوت الجبل فجعلت أرديهم بالحجارة قال فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا خلفته وراء ظهري وخلوا بيني وبينه ثم اتبعتهم (1) أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة وثلاثين رمحا يستخفون ولا يطرحون شيئا إلا جعلت عليه آراما (2) من الحجارة يعرفها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى أتوا متضايقا من ثنية فإذا هم قد أتاهم فلان بن بدر الفزاري فجلسوا يتضحون يعني يتغدون وجلست على رأس قرن (3) قال الفزاري ما هذا الذي أرى قالوا لقينا من هذا البرح (4) والله ما فارقنا منذ غلس يرمينا حتى انتزع كل شيء في أيدينا قال فليقم إليه نفر منكم أربعة قال فصعد إلي منهم أربعة في الجبل قال فلما أمكنوني من الكلام قال قلت هل تعرفونني قالوا لا ومن أنت قال قلت أنا سلمة بن الأكوع والذي كرم وجه محمد - صلى الله عليه وسلم - لا أطلب رجلا منكم إلا أدركته ولا يطلبني رجل منكم فيدركني قال أحدهم أنا أظن (5) قال فرجعوا فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخللون الشجر قال فإذا أولهم الأخرم الأسدي على إثره (6) أبو قتادة الأنصاري وعلى إثره المقداد بن الأسود الكندي - رضي الله عنهم - قال فأخذت بعنان الأخرم قال فولوا مدبرين قلت يا أخرم احذرهم لا يقتطعوك حتى يلحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قال يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل بيني وبين الشهادة قال فخليته فالتقى هو وعبد الرحمن قال فعقر بعبد الرحمن فرسه وطعنه عبد الرحمن فقتله وتحول على فرسه ولحق أبو قتادة فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبد الرحمن فطعنه فقتله فوالذي كرم وجه محمد - صلى الله عليه وسلم - لتبعتهم أعدو على رجلي حتى ما أرى ورائي من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا غبارهم شيئا حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد ليشربوا منه وهم عطاش قال فنظروا إلي أعدو وراءهم فخليتهم عنه يعني أجليتهم عنه فما ذاقوا منه قطرة قال ويخرجون فيشتدون في ثنية قال فأعدو فألحق رجلا منهم فأصكه بسهم في نغض (7) كتفه قال قلت خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع قال يا ثكلته أمه أكوعه بكرة (8) قال قلت نعم يا عدو نفسه أكوعك بكرة قال وأردوا (9) فرسين على ثنية قال فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ولحقني عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن وسطيحة فيها ماء فتوضأت وشربت ثم أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على الماء الذي حلأتهم عنه (10) فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ تلك الإبل وكل شيء استنقذته من المشركين وكل رمح وبردة وإذا بلال نحر ناقة من الإبل التي استنقذت من القوم وإذا هو يشوي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كبدها وسنامها قال قلت يا رسول الله خلني فأنتخب من القوم مائة رجل فأتبع القوم فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته قال فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه في ضوء النهار فقال يا سلمة أتراك كنت فاعلا قلت نعم والذي أكرمك فقال إنهم الآن ليقرون (1) في أرض غطفان قال فجاء رجل من غطفان فقال نحر لهم فلان جزورا فلما كشفوا جلدها رأوا غبارا فقالوا أتاكم القوم فخرجوا هاربين فلما أصبحنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة قال ثم أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهمين سهم الفارس وسهم الراجل فجمعهما لي جميعا ثم أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة قال فبينما نحن نسير قال وكان رجل من الأنصار لا يسبق شدا قال فجعل يقول ألا مسابق إلى المدينة هل من مسابق فجعل يعيد ذلك قال فلما سمعت كلامه قلت أما تكرم كريما ولا تهاب شريفا قال لا إلا أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال قلت يا رسول الله بأبي أنت (2) وأمي ذرني فلأسابق الرجل قال إن شئت قال قلت اذهب إليك وثنيت رجلي فطفرت (3) فعدوت قال فربطت عليه شرفا أو شرفين (4) أستبقي نفسي (5) ثم عدوت في إثره فربطت عليه شرفا أو شرفين ثم إني رفعت (6) حتى ألحقه قال فأصكه بين كتفيه قال قلت قد سبقت والله قال أنا أظن قال فسبقته إلى المدينة قال فوالله ما لبثنا إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم:
تالله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
ونحن عن فضلك ما استغنينا ... فثبت الأقدام إن لاقينا
وأنزلن سكينة علينا
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا قال أنا عامر قال غفر لك ربك قال وما استغفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإنسان يخصه إلا استشهد قال فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له يا نبي الله لولا ما متعتنا بعامر (7) قال فلما قدمنا خيبر قال خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح (8) بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب

قال وبرز له عمي عامر فقال:
قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر
قال فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس (عمي) (1) عامر وذهب عامر يسفل له (2) فرجع سيفه على نفسه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه قال سلمة فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون بطل عمل عامر قتل نفسه قال فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي فقلت يا رسول الله بطل عمل عامر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قال ذلك قال قلت ناس من أصحابك قال كذب من قال ذلك بل له أجره مرتين ثم أرسلني إلى علي - رضي الله عنه - وهو أرمد فقال لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال فأتيت عليا فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبسق في عينيه فبرأ وأعطاه الراية.
وخرج مرحب فقال:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فقال علي - رضي الله عنه -:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره
قال: فضرب رأس مرحب فقتله ثم كان الفتح على يديه. (م 5/ 190 - 195)





خَرَج النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأصحابهِ رَضيَ اللهُ عنهم مِن المدينةِ إلى مكَّةَ يُرِيدون العمرةَ، وذلك في سَنةِ سِتٍّ مِنَ الهِجرةِ، فمنَعَتْهم قُرَيشٌ دُخولَ مكَّةَ، حتَّى أوشَكَتِ الحربُ أنْ تَحدُثَ بيْنهم، فوَقَع بيْنهم الصُّلحُ، وهو الَّذي سُمِّي بصُلحِ الحُدَيبيةِ.
وفي هذا الحَديثِ يَروي سَلَمةُ بنُ الأكوَعِ رَضيَ اللهُ عنه بَعضَ المَشاهِدِ الَّتي حَضَرَها مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فيخبر أنهم قدموا الحُدَيْبيَةَ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والحُدَيْبيَةُ: قَرْيةٌ قَريبةٌ مِن مَكَّةَ، سُمِّيتْ باسمِ بِئرٍ، وفيها وَقَعَ صُلحُ الحُدَيْبيةِ بيْنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكُفَّارِ مَكَّةَ، وكان عدد المسلمين أربَعَ مِائةً، «وعليها خَمسونَ شاةً لا تَرْويها» هذا إشارةً إلى أنَّ ماءَها قليل، والمَعنى: كانَ معهم على البِئرِ خَمسونَ مِنَ الأغنامِ تُحاوِلُ الشُّربَ، وماء البِئرِ لا يَكفي، قالَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: «فقَعَدَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على جَبا الرَّكيَّةِ»، وهو التُّرابُ الَّذي أُخرِجَ مِنَ البِئرِ وجُعِلَ حَولَها، فإمَّا أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَعا بالبَرَكةِ وفَيَضانِ الماءِ فيها، «وإمَّا بَسَقَ فيها»، يعني: تَفَلَ مِن لُعابِه فيها شيئًا خفيفًا لتَحْصُلَ فيها البركةُ بأثَرِ لُعابِه، «فجاشَتْ» البئرُ وفاضَتْ بالماءِ، وهي مُعجِزةٌ ظاهِرةٌ مِن مُعجِزاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، «فسَقَيْنا» دَوابَّنا «واستَقَيْنا»، وشَرِبْنا حتَّى شَبِعْنا مِنَ العَطَشِ ومَلَأْنا ما معنا مِن القِرَبِ ومَزاداتِ الماءِ.
ثمَّ إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَعاهم وجَمَعَهم «لِلبَيعةِ في أصلِ الشَّجَرةِ»، أي: تَحتَ الشَّجَرةِ عِندَ جِذعِها، والبَيعةُ: هي المُعاقَدةُ والمُعاهَدةُ على الالتِزامِ بما يُوجِبُه اللهُ ورَسولُه، وكان سَبَبُ هذه البَيعةِ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا صَدَّه المُشرِكونَ عن دُخولِ مَكَّةَ بَعَثَ عُثمانَ بنَ عفَّانَ رَضيَ اللهُ عنه إلى مَكَّةَ بكِتابٍ يُخبِرُ به أشْرافَ قُرَيشٍ بأنَّه لم يَأتِ إلَّا زائرًا لِلبَيتِ ومُعَظِّمًا لِحُرْمَتِه، فأُشيعَ قَتْلُ عُثمانَ حتَّى بَلَغَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ودَعا النَّاسَ لِلبَيعةِ، فبايَعَه بَعضُهم على المَوتِ، وبَعضُهم على ألَّا يَفِرُّوا، وتُسَمَّى هذه البَيعةُ بَيعةَ الرِّضوانِ؛ لِقَولِه تَعالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18].
وأخبَرَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: أنَّه كان مِن أوَّلِ المبايعينَ، ثمَّ أخَذَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ البَيعةَ مِنَ النَّاسِ، «حتى إذا كانَ في وَسَطٍ مِنَ النَّاسِ» في جَمعٍ مِن أصحابِه، «قالَ: بايِعْ يا سَلَمةُ»، فطلَبَ مِنْه أنْ يكَرِّرَ البَيعةَ مَرَّةً أُخرى، وظَنَّ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَسِي بَيعتَه الَّتي كانت في أوَّلِ النَّاسِ، فقال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «قد بايَعتُكَ يا رَسولَ اللهِ في أوَّلِ النَّاسِ» يُذَكِّر النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ببَيعتِه الأُولى، فقالَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «وأيضًا»، بمَعنى: وإنْ كُنتَ بايَعتَ في أوَّلِ النَّاسِ فكَرِّرِ البَيعةَ مَرَّةً أُخرى، «ورآني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَزِلًا -يَعني: ليس معه سِلاحٌ- فأعْطاني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَجَفةً أو دَرَقةً»، وهي التُّرْسُ الصَّغيرُ الَّذي يُتَّقى به مِن ضَرَباتِ السَّيفِ، ثمَّ تابَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَيعتَه في أصحابِه، «حتى إذا كانَ» النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في آخِرِ النَّاسِ، «قالَ: ألَا تُبايِعُني يا سَلَمةُ؟ قُلتُ: قد بايَعتُكَ يا رَسولَ اللهِ في أوَّلِ النَّاسِ، وفي أوسَطِ النَّاسِ» فطلَبَ منه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُبايِعَ مرَّةً ثالثةً، فبايَعَ سَلمةُ رَضيَ اللهُ عنه النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وفي مُبايَعتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له ثَلاثَ مرَّاتٍ فَضيلةٌ ظاهرةٌ لِسَلَمةَ بنِ الأكْوعِ رَضيَ اللهُ عنه.
ثمَّ رآهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليْس معه سِلاحُه مرَّةً أُخرى، فسَأَله عن التُّرسِ الَّذي أعْطاه له وهو يُبايِعُه في المرَّةِ الثَّانيةِ، فأخبَرَه سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: أنَّه لَقِي عمَّه عامِرَ بنَ الأكْوعِ ليْس معه سِلاحٌ، فأعطاهُ له، فضَحِكَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقالَ: «إنَّكَ كالذي قالَ الأوَّلُ: اللَّهُمَّ أبغِني» أي: أعْطِني وأعِنِّي على أنْ أطلُبَ وأجِدَ «حَبيبًا هو أحَبُّ إليَّ مِن نَفْسي»، والمُرادُ أنَّكَ آثَرتَ بسِلاحِكَ عَمَّكَ مع احتياجِكَ له، فأعْطَيتَه إيَّاه ولم تُبقِه معكَ لِيَنفَعَكَ في الحَرْبِ، فصار سَلَمةُ كمَن يَدْعو اللهَ تَعالَى أنْ يُيسِّرَ له رجُلًا يكونُ أحَبَّ إليه مِن نَفسِه فيُؤثِرَه عليها، وفيه مَدحُ سَلَمةَ ونَعتُه بالإيثارِ.
قال سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: «ثمَّ إنَّ المُشرِكينَ راسَلُونا الصُّلحَ» يعني: أرسَلْنا إليهم وأرْسَلُوا إلينا في أمرِ الصُّلحِ وشَأنِه، حتَّى تمَّ الصُّلحُ بيْنَ الفريقينِ، «حتَّى مَشى بَعضُنا في بَعضٍ، واصْطَلَحْنا»، والمَعنى: أمِنَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الفَريقَيْنِ الآخَرَ بَعدَ الصُّلحِ، حتَّى كانوا يُجالِسون بعضُهم بعضًا، قال سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: «وكُنتُ تَبِيعًا لِطَلحةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ»، والتَّبيعُ: الخادِمُ والأجيرُ؛ لأنَّه يَتبَعُ الَّذي يَخدُمُه، «أسْقي فَرَسَه، وأحُسُّه» أي: أحُكُّ ظَهْرَ الفرَسِ بالمحسَّةِ، فأُنظِّفُه وأنْفُضُ عنه التُّرابَ، «وأخدُمُه» في جَميعِ حَوائجِه، «وآكُلُ مِن طَعامِه»، نَظيرَ خِدمَتِه، «وتَرَكتُ أهْلي ومالي مُهاجِرًا إلى اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ» أي: وسَببُ أنَّه كان أجيرًا لطَلْحةَ: أنَّه تَرَك مالَه في بَلدِه، وهاجَرَ بلا مالٍ، فاحتاجَ إلى أنْ يَعمَلَ ليَحصُلَ على المالِ.
ويُخبِرُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا وَقَع الصُّلحُ ودَخَل المسْلِمون في الكفَّارِ، أتى عندَ شَجَرةٍ ليَسترِيحَ تحْتَها، قال: «فكَسَحتُ شَوكَها»، أي: كَنَسْتُه وأزحْتُه عن مَوضِعٍ في ظِلِّها، «فاضْطَجَعْتُ في أصْلِها»، فنِمتُ تَحتَها عِندَ جِذْعِها «فأتاني أربَعةٌ مِنَ المُشرِكينَ مِن أهلِ مَكَّةَ، فجَعَلوا يَقَعونَ في رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ»، أي: يَغتابونه إمَّا بالشَّتمِ والسَّبِّ، وإمَّا بالاستِهزاءِ والسُّخريةِ، فكَرِهتُهم دونَ أنْ يُبادِئَهم بما يَنقُضُ صُلحَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ معهم، فانتَقَل لِيَنامَ تَحتَ شَجَرةٍ غَيرِها مُبتَعِدًا عنهم، فعَلَّقوا سِلاحَهم، واضطَجَعوا وناموا، فبَينَما هم جميعا على تلك الحالِ، «إذْ نادى مُنادٍ» مِن المسْلِمين، «مِن أسفَلِ الوادي» يَقصِدُ واديَ الحُدَيبيةَ، «يا لَلْمُهاجِرينَ» يَستغيثُ بالمسْلِمين؛ لأجْلِ أنَّ «ابنُ زُنَيمٍ» قُتِلَ، وكانَ رَجُلًا مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَتَلَه أحَدُ المُشرِكينَ في فَترةِ ما كانَ بيْنهم مِنَ المُعاهَدةِ والصُّلحِ.
قالَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: «فاختَرَطْتُ سَيفي»، أي: أخرَجْتُه مِن غِمدِه وأخرَجتُه منه ظنًّا أنَّ المشركين نَقَضوا الصُّلحَ، «ثمَّ شَدَدتُ» فأسْرَعْتُ وهَجَمْتُ «على أولئك الأربَعةِ وهُم رُقودٌ»، وهم الأربَعةُ الذين تَحَوَّلَ لِأجْلِهم مِن شَجَرَتِه الأُولى، «فأخَذتُ سِلاحَهم» المُعَلَّقَ على الشَّجَرةِ، «فجَعَلتُه ضِغثًا في يَدي»، يُريدُ أنَّه أخَذَ سِلاحَهم وجَمَعَ بَعضَه إلى بَعضٍ حتَّى جَعَلَه كُلَّه حُزمةً مَجموعةً في يَدِه، «ثمَّ قُلتُ: والَّذي كَرَّمَ وَجهَ مُحمدٍ»، مُقسِمًا باللهِ عزَّ وجلَّ، «لا يَرفَعُ أحَدٌ مِنكم رَأسَه» مِن الأرضِ «إلَّا ضَرَبتُ الَّذي فيه عَيناهُ»، يَعني: ضَرَبتُ رَأْسَه وقَتَلْتُه، «ثمَّ جِئتُ بهم أسوقُهم» أمامي «إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وجاء عَمِّي عامِرٌ برَجُلٍ مِنَ العَبَلاتِ»، وهم بَطنٌ مِن قُرَيشٍ، وهم أُمَيَّةُ الصُّغرى مِن بَني عَبدِ شَمسِ بنِ عَبدِ مَنافٍ، «يُقالُ له: مِكرَزٌ، يَقودُه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على فَرَسٍ مُجَفَّفٍ»، وهو الفَرَسُ المُلَبَّسُ بالتَّجافيفِ، جَمعُ تِجفافٍ، وهو ثَوبٌ كالجُلِّ يَلبَسُه الفَرَسُ لِيَقِيَه مِنَ السِّلاحِ، ومعه سَبعون مِنَ المُشرِكينَ آخَرين قد أُسِروا، وذَكَر أنَّ سَبَبَ أسرِهم: أنَّهم عَمَدوا إلى عَسكَرِ المُسلِمينَ بَعدَ الصُّلحِ، فرَمَوُا المُسلِمينَ بالحِجارةِ والنَّبْلِ، فبَعَثَ إليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جماعةً مِن المسْلِمين، وكان عمُّ سَلَمةَ بنِ الأكوعِ منهم، ولعلَّ هذا الاعتداءُ وقَعَ مِن بعضِ المشركين لعدَمِ مَعرفتِهم بالصُّلحِ الَّذي أقامَتْه قُرَيشٌ، فنَظَرَ إليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقالَ: «دَعُوهم» أي: اتْرُكُوهم وخَلُّوا سَبيلَهم، «يَكُنْ لهم بَدْءُ الفُجورِ وثِناهُ»، والفُجورُ هنا: نَقضُ الصُّلحِ، وثِناهُ: إعادَتُه ثانيةً، والمَعنى: إنْ تَرَكْتُموهم يَكُنْ لهم بَدْءُ الفُجورِ وابتِداءُ الغَدرِ وإعادَتُه، فليَكُنْ لهم أوَّلُ النَّقضِ وآخِرُه. «فعَفا عنهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنزَلَ اللهُ تَعالَى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]، الآيةَ كُلَّها»، والمعنى: أنَّ اللهَ بِفضلِهِ هُو الَّذي منَعَ وُصولَ الأذَى إليكُم مْنهُم كما منع أذِيَّتَكُم لهم بعد أن نصرَكُم عليهم قُرْبَ مكَّةَ.
قالَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: «ثمَّ خَرَجْنا» مِن الحُدَيبيةِ بعْدَ الصُّلحِ «راجِعينَ إلى المَدينةِ، فنَزَلْنا»، أي: مَوضعًا ومَكانًا لِيَسترِيحوا فيه، وكان قَريبًا مِن بَني لَحيانَ -وهُم حَيٌّ مِن قَبيلةِ هُذَيلٍ العربيَّةِ-، لا يَحولُ بيْننا وبيْنهم إلَّا جَبَلٌ واحِدٌ، «وهُم المُشرِكونَ»، والمُرادُ أنَّ بَني لَحيانَ مُشرِكونَ، وضَبَطَه بَعضُهم (وهَمَّ) بفَتحِ الهاءِ وتَشديدِ الميمِ المَفتوحةِ على أنَّه فِعلٌ ماضٍ، وعليه فيَكونُ المَعنى: وهَمَّ وأغَمَّ شَأنُ المُشرِكينَ الذين همْ بَنو لَحيانَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابَه؛ مَخافةَ أنْ يُبَيِّتَ المُشرِكونَ إيَّاهم في اللَّيلِ؛ لِكَونِهم نَزَلوا قُرْبَهم؛ «فاستَغفَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ»، أي: دَعا بالمغفِرةِ لِمَن صَعِدَ الجَبَلَ الَّذي بيْنهم وبيْنَ بَني لَحيانَ، «كَأنَّه طَليعةٌ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابِه»، والطَّليعةُ: مَن يَتطَلَّعُ على العَدُوِّ لِيُنذِرَ قَومَه مِن أيِّ غَدْرٍ مِنَهم. قالَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: «فرَقِيتُ» أي: صَعِد الجبَلَ، وكان مِن طَليعةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في تلك اللَّيلةَ مَرَّتَيْنِ أو ثَلاثَ مرَّاتٍ.
ثمَّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابَه رَضيَ اللهُ عنهم قَدِموا المَدينةَ، فبَعَثَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بظَهْرِه -وهو الإبِلُ تُعَدُّ لِلرُّكوبِ وحَمْلِ الأثقالِ- مع رَباحٍ غُلامِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِتَرْعى في مَوضِعِها خارِجَ المَدينةِ، وقدْ خَرَج معه سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه بفَرَسِ طَلحةَ، يُنَدِّيهِ مع الظَّهرِ، أي: يَسْقي فَرَسَ طَلحةَ مع الإبلِ، «فلَمَّا أصبَحْنا إذا عَبدُ الرَّحمنِ الفَزاريُّ قد أغارَ على ظَهرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ»، أي: هَجَمَ مع قَومِه على إبِلِ الصَّدَقةِ وفيها ناقةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، «فاسْتاقَه أجْمَعَ، وقَتَلَ راعِيَه»، فقَتَلَ عَبدُ الرَّحمنِ الفَزاريُّ راعيَ الإبِلِ، وهو يَسارٌ النُّوبيُّ، «فقُلتُ: يا رَباحُ، خُذْ هذا الفَرَسَ فأبلِغْه طَلحةَ بنَ عُبَيدِ اللهِ»، يعني: سَلِّمْه إليه، فيَكون قد رَدَّ الأمانةَ لِصاحِبِها، ولِيَكونَ أسْرَعَ في إبلاغِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأخبِرْ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ المُشرِكينَ قد أغاروا على «سَرْحِه»، وهي الجِمالُ والإبِلُ والمَواشي الرَّاعيةُ الخاصَّةُ به، سُمِّيتْ بذلك لِسُروحِها غَدوةً لِلمَرعى.
قالَ: «ثمَّ قُمتُ على أكَمَةٍ»، وهي التَّلُّ مِن حِجارةٍ، أوِ المَوضِعُ يَكونُ أشَدَّ ارتِفاعًا مِمَّا حَولَه، وهو غَليظٌ لا يَبلُغُ أنْ يَكونَ حَجَرًا، «فاستَقبَلْتُ المَدينةَ»، أي: تَوَجَّهتُ إليها بوَجْهي، «فنادَيتُ ثَلاثًا: يا صَباحاهُ»، والمَعنى: صَرَختُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ بصَوتٍ عالٍ؛ لِيُنبِّهَ أهلَ المَدينةِ، ثمَّ خَرَج وراءَ القومِ الفَزاريِّين وَحْده يَتتبَّعُ آثارَهم لِيَسترِدَّ منهم ما أخَذُوه، «أرْمِيهم بالنَّبْلِ» أي: أضْرِبُهم مِن بَعيدٍ بالسِّهامِ، «وأرتَجِزُ» بإنشادِ الرَّجَزِ مِنَ الشِّعرِ، «أقولُ: أنا ابنُ الأكوَعِ»، وكانَ مِن عادةِ العرَبِ الفَخْرُ بآبائِهم في الحُروبِ تَشجيعًا لأنفُسِهِم «واليَومُ يَومُ الرُّضَّعِ»، والرُّضَّعُ جَمعُ راضِعٍ، وفي أصلِ معناه أقوالٌ، فقيل: اليومَ يُعلَمُ مَن أرضعتْه الحربُ مِن صِغَرِه فيكونُ كنايةً عن الظهورِ والانتصارِ، وقيل: أرادَ اللِّئامَ الذين يَرضعونَ النَّاقةَ ولا يَحلُبونَها لئلَّا يَشعُرَ به أحدٌ فيطلبَ منه اللَّبنَ، فعبَّروا عن كلِّ لئيمٍ بذلك، وعليه قالوا في المثَل: لئيم راضعٌ، وقيل: هو الَّذي رَضَعَ اللُّؤْمَ من ثَدي أُمِّه وغُذِيَ به وهو مطبوعٌ عليه، فيكون المَعنى: اليَومُ يَومُ هَلاكِ اللِّئامِ.
فلَحِقَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه رَجُلًا مِنهم، وقولُه: «فأصُكُّ سَهمًا في رَحلِه»، يعني: فأُطلِقُ عليه سَهمًا، فأُصيبُ مُؤْخِرةَ الرَّحلِ الَّذي يَركَبُ عليه، والرَّحلُ: مَركَبُ البَعيرِ، كالسَّرْجِ لِلفَرَسِ، «حتى خَلَصَ نَصلُ السَّهمِ إلى كَتِفِه»، يعني: دَخَلتْ حَديدةُ رَأسِ السَّهمِ في كَتِفِه، وأعلى ظَهرِه، فقُلتُ له: «خُذْها وأنا ابنُ الأكوَعِ ... واليَومُ يَومُ الرُّضَّعِ»، فخُذْ هذه الطَّعنةَ منِّي، وهذا كانَ مِن عادةِ العَرَبِ عِندَ القِتالِ والمُحارَبةِ: أنْ يَتفاخَروا بالآباءِ والأنسابِ، ومِن شَأنِ هذا أنْ يَزيدَ مِن حَماسَتِهم، قالَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: «فَواللهِ، ما زِلتُ أرْمِيهم» بالنَّبلِ والسِّهامِ، «وأعقِرُ بهم»، والعَقرُ: ضَرْبُ قَوائِمِ البَعيرِ والفَرَسِ بالسَّيفِ، ثمَّ استُعمِلَ في القَتلِ، «فإذا رَجَعَ إلَيَّ فارِسٌ» منهم يُريدُ أنْ يَقتُلَه، والفارسُ: هو المحاربُ الَّذي يَركَبُ الفرَسَ، «أتَيتُ شَجَرةً فجَلَستُ في أصْلِها»، تَحتَ جِذْعِها لِلاختِباءِ والتَّستُّرِ، وهو نوعٌ مِن الكَرِّ والفَرِّ، وهو مَشهورٌ في الحربِ، «ثمَّ رَمَيتُه، فعَقَرتُ به» أي: يَرمِيه بالسِّهامِ حتَّى يُصِيبَ فَرَسَه أو يَقتُلَه، «حتَّى إذا تَضايَقَ الجَبَلُ دَخَلوا في تَضايُقِه»، والمعنى: أخَذَ بهمُ الطَّريقُ إلى مَمَرٍّ ضَيِّقٍ في الجَبَلِ واسْتَتَروا منِّي به بحيثُ لا يَبلُغُهم ما أرْمِيهم به مِن السِّهامِ، وهو إشارةً أيضًا إلى ازدِحامِهم فيه، فصَعِدتُ فَوقَ الجبلِ «فجَعَلتُ أُرْدِيهم بالحِجارةِ» أي: أسقِطُها عليهم، وما زال سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه على تلك الحالِ مع العَدوِّ في اتِّباعِه لهم والنَّيلِ منْهم، حتَّى استطاعَ أنْ يُخلِّصَ منهم كُلَّ بَعيرٍ أخَذوه مِن إبِلِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَرَكَه خَلْفَه؛ لِيَكونَ في حَوزَتِه، وحالَ بيْنهم وبيْنه، وتَرَكوه لِيَقبِضَه ويَأخُذَه.
قال سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: «ثمَّ اتَّبَعتُهم أرْمِيهم» بالسِّهامِ، «حتى ألْقَوْا أكثَرَ مِن ثَلاثينَ بُردةً» وهي نَوعٌ مِن الثِّيابِ «وثَلاثينَ رُمحًا؛ يَستَخِفُّونَ»، يَطْلُبونَ الخِفَّةَ منها؛ لِيَكونوا أسرَعَ في الفِرارِ والهَرَبِ منه، «ولا يَطرَحونَ شَيئًا» أي: ولا يَرمونَ شَيئًا مِنَ البُرودِ والرِّماحِ «إلَّا جَعَلتُ عليه آرامًا مِنَ الحِجارةِ»، يعني: أخَذْتُه وجَمَعتُه في مَكانٍ ووضَعْتُ عليه عَلاماتٍ مِنَ الحِجارةِ كي يَعرِفَها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابُه، ويَأخُذوها مِن وَرائِه ويَحفَظوها، حتَّى إذا وصل العدو مَكانًا ضَيِّقًا، «مِن ثَنيَّةٍ»، وهي الطَّريقُ بيْنَ الجَبلَيْنِ، «فإذا همْ قد أتاهم فُلانُ ابنُ بَدرٍ الفَزاريُّ»، قيلَ: هو حَبيبُ أو عبدُ الرَّحمنِ بنُ عُيَيْنةَ بنِ بَدْرٍ الفَزاريُّ، «فجَلَسوا يَتضَحَّوْنَ» يَعني يَتغَدَّونَ ويَأكلونَ الغَداءَ وَقتَ الضُّحى، «وجَلَستُ على رَأسِ قَرنٍ» وهو أعلى الجَبَلِ، أوِ الجَبَلُ الصَّغيرُ، أوِ القِطعةُ تَنفَرِدُ مِنَ الجَبَلِ، ثمَّ قالَ الفَزاريُّ: «ما هذا الَّذي أرَى؟!» أي: ما يَكونُ ذلك الَّذي فَوقَ الجَبَلِ -يشير إلى سَلَمةَ بنِ الأكوَعِ-«قالوا: لَقِينا مِن هذا البَرْحَ»، أي: أصابَتْنا منه الشِّدةُ والمَشقَّةُ، «واللهِ ما فارَقَنا» يُقْسِمون أنَّ سَلَمةَ رَضيَ اللهُ عنه ما تَرَكَهم منذُ وَقتِ الغَلسِ، وهو ظُلمةُ آخِرِ اللَّيلِ، وهو يَرْمِيهم بالسِّهامِ حتَّى انتَزَعَ وأخَذَ كُلَّ شَيءٍ كان في أيديهم، فقالَ لهم الفَزاريُّ: «فلْيَقُمْ إليه نَفَرٌ منكم أربَعةٌ» لكيْ يَقتُلوه، والنَّفَرُ: الجَماعةُ، فصَعِدَ إلَيَّه أربَعةٌ منهم وهو في الجَبَلِ، فلَمَّا اقْتَرَبوا بحيثُ يُمكِنُ لهم سَماعُه ويسمع هو كلامهم، «قُلتُ: هلْ تَعرِفوني؟ قالوا: لا، ومَن أنتَ؟ قالَ: قُلتُ: أنا سَلَمةُ بنُ الأكوَعِ، والذي كَرَّمَ وَجهَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لا أطلُبُ رَجُلًا مِنكم إلَّا أدْرَكْتُه»، أي: لا أقصِدُ أحَدًا مِنكم إلَّا قدَرْتُ عليه وقتَلْتُه، سَواءٌ كانَ على حالةِ الفِرارِ أوِ المُواجَهةِ، وهذا تَهديدٌ لهم، «ولا يَطلُبُني رَجُلٌ مِنكم فيُدرِكَني»، وعلى العَكسِ، فلا يَقصِدُني أحَدٌ مِنكم إلَّا وسَيَكونُ مَهزومًا، «قالَ أحَدُهم: أنا أظُنُّ»، بمَعنى: أنا أُصَدِّقُ كَلامَ سَلَمةَ، فرَجَعوا.
قالَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: «فما بَرِحتُ مَكاني»، أي: ظَلَلتُ فيه، «حتى رَأيتُ فَوارِسَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ» الذين أرسَلَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والفَوارِسُ: جَمعُ فارِسٍ، وهمُ المُقاتِلونَ على الخَيلِ، «يَتخَلَّلونَ الشَّجَرَ»، أي: يَدخُلونَ ويَمُرُّونَ بيْنَ الأشجارِ يَطلُبونَ العَدُوَّ، «فإذا أوَّلُهم الأخرَمُ الأسَديُّ» وهو مُحرِزُ بنُ نَضْلةَ، «على أثَرِه» مِن خَلفِه: أبو قَتادةَ الأنصاريُّ، وعلى أثَرِه المِقدادُ بنُ الأسوَدِ الكِنديُّ رَضيَ اللهُ عنهم جميعًا، قالَ: «فأخَذتُ بعِنانِ الأخرَمِ»، أي: أمْسَكتُ بلِجامِ فَرَسِه؛ لمنْعِه عنِ اتِّباعِ المُشرِكينَ وَحدَه، «فوَلَّوْا مُدبِرينَ»، فهَرَبَ المُشرِكونَ عِندَما رَأوْا فُرسانَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، «قُلتُ: يا أخرَمُ، احذَرْهم»، أي: احذَرْ هؤلاء المُشرِكينَ، واحفَظْ نَفْسَكَ مِن ضَرَرِهم، «لا يَقتَطِعوكَ»، أي: يَأخُذوكَ ويَنفَرِدوا بكَ فيَفصِلوكَ عن أصحابِكَ ويَحولوا بيْنَكَ وبَينَهم، حتَّى يَلحَقَ بنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابُه، فقالَ الأخرَمُ رَضيَ اللهُ عنه: «يا سَلَمةُ، إنْ كُنتَ تُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، وتَعلَمُ أنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ والنَّارَ حَقٌّ، فلا تَحُلْ»، أي: لا تَحجِزْ وتَمنَعْ، «بيْني وبيْنَ الشَّهادةِ»، بالقَتلِ في سَبيلِ اللهِ، فتَرَكَه سَلَمةُ وخَلَّى بيْنَه وبيْنَ المُشرِكينَ، ومَضى إليهم، فالْتَقى الأخرَمُ هو وعَبدُ الرَّحمنِ الفَزاريُّ المُشرِكُ، فَضَرَبَ الأخرَمُ رَضيَ اللهُ عنه قَوائِمَ فَرَسِ عَبدِ الرَّحمنِ الفَزاريِّ فأعْجَزَه، ولكنْ طَعَنَه عَبدُ الرَّحمنِ فاستُشهِدَ الأخرَمُ، ورَكِبَ عَبدُ الرَّحمنِ الفَزاريُّ على فَرَسِ الأخرَمِ لِيَهرُبَ به، ولكنْ لَحِقَ به أبو قَتادةَ فطَعَنَه وقَتَلَه، وكان أبو قَتادةَ يُلقَّبُ بفارِسِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وأخبَرَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه وأقسَمَ باللهِ أنَّه ما زال يَتبَعُ العَدوَّ ويَجْرِي بسُرعةٍ على رِجلَيه ولا يَركَبُ شيئًا، وأمْعَنَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه في تَتَبُّعِ الأعداءِ والجَريِ خَلفَهم، إلى أنِ ابتَعد عن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بُعدًا شاسِعًا، بحيثُ لا يَرى خَلفَه منهم أحَدًا، ولا يَرى حتَّى الغبارَ الَّذي تُثيرُه دَوابُّهم، وظلَّ يَتبَعُ المشْرِكين ويَجْري خَلْفَهم «حتَّى يَعدِلوا»؛ وهذا بيانٌ لغايةِ وزَمنِ مُتابَعتِه لهم، أي: أنَّه ظلَّ مُتابعًا لهم حتَّى مالوا «قَبلَ غُروبِ الشَّمسِ إلى شِعْبٍ»، وهو الطَّريقُ بيْنَ جَبلَيْنِ، «فيه ماءٌ، يُقالُ له: ذا قَرَدٍ»، وهو على مَسافةِ ثَلاثينَ كيلو مترًا تَقريبًا مِن المَدينةِ إلى خَيبَر، «لِيَشرَبوا منه وهم عِطاشٌ»، والمَعنى: أنَّه قَصَدَ تَتَبُّعَهم قَبْلَ أنْ يَصِلوا إلى مَوضِعِ الماءِ؛ لِيَمنَعَهم منه قَبلَ أنْ يَنشَطوا مَرَّةً أُخرى.
قالَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: «فنَظَروا إلَيَّ أعْدُو» أي: رَأَوه وهو يَجْري مُسرِعًا نحْوَهم، «فخَلَّيْتُهم عنه»، يَعني أجلَيتُهم عنه وطَرَدتُهم، فما ذاقوا من هذا الماء قَطرةً، قالَ: «ويَخرُجونَ فيَشتَدُّونَ»، بمعنى: يَتَحامَلونَ على أنفُسِهم مِنَ التَّعَبِ، «في ثَنيَّةٍ»، وهي طَريقٌ صاعِدٌ في الجَبَلِ، أو مُنعَطَفٌ بيْنَ جَبلَيْنِ، «فأعْدُو» فأَجْري وأُسرِعُ «فألْحَقُ رَجُلًا مِنهم فأصُكُّه» فأطْعُنُه وَأضرِبُه، «بسَهمٍ في نُغْضِ كَتِفِه»، وهو الرَّقيقُ اللَّيِّنُ مِن عَظمِ الكَتِفِ، أو في عَرْضِ كَتِفِه، «قُلتُ: خُذْها وأنا ابنُ الأكوَعِ، واليَومُ يَومُ الرُّضَّعِ»، فقالَ له الرَّجُلُ الَّذي أُصِيبَ: «يا ثَكِلَتْه أُمُّه» كَأنَّه قالَ: يا مَن ثَكِلَتْه أُمُّه، والثُّكلُ: فَقدُ الوَلَدِ، ومُرادُه الدُّعاءُ عليه بالمَوتِ، «أكْوَعُهُ بُكرةَ؟!» أأنتَ المُسَمَّى بابنِ الأكوَعِ مِن أوَّلِ يَومِنا؟! والبُكرةُ: أوَّلُ النَّهارِ، «قُلتُ: نَعَمْ»، أنا الأكوَعُ الَّذي كُنتُ أضْرِبُكم، «يا عَدُوَّ نَفْسِه، أكْوَعُكَ بُكرةَ»، أي: أنا المسمَّى بابنِ الأكوعِ، وناداهُ بعَدُوَّ نَفْسِه؛ لأنَّه لم يُسلِمْ، فيكونَ سَببًا في دُخولِها النَّارَ.
قالَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: «وأردَوْا فَرَسَيْنِ على ثَنيَّةٍ»، والمَعنى: إنَّ المُشرِكينَ الفارِّينَ تَرَكوا مِن خَلفِهم فَرَسَيْنِ بَعدَ أنْ أجْهَدوهما وأتْعَبوهما في أثناءِ فِرارِهم، «فجِئتُ بهما أسوقُهما» أمْشي بالفَرسَيْنِ، «إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأتى إليه عَمُّه عامِرُ بنُ الأَكْوَعِ رَضيَ اللهُ عنه «بسَطيحةٍ»، وهي إناءٌ مِن جُلودٍ رُكِّبَ بَعضُها فَوقَ بَعضٍ، «فيها مَذْقةٌ مِن لَبَنٍ» يعني: فيها قَليلٌ مِن لَبَنٍ مَمزوجٍ بماءٍ، وأيضا سَطيحةٍ فيها ماءٌ، «فتَوضَّأتُ وشَرِبتُ، ثمَّ أتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو على الماءِ»، وهو الَّذي أجلاهم وأبعَدهم عنه، وقد أخذ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُلَّ ما أوقَعَه سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه مِنَ أيدي المُشرِكينَ، وكان قد جَعَلَ عليه عَلاماتٍ بالحِجارةِ كما ذَكَر سابقًا؛ فعَرَفَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وجَمَعَها، «وإذا بِلالٌ» وهو ابن رباح -مؤذن رَسول اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قد نَحَرَ ناقةً مِنَ الإبِلِ الَّذي «اسْتَنقَذتُ» الَّتي أرجَعتُها مِنَ القَومِ، وإذا هو يَشوي لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن كَبِدِها «وسَنامِها»، وهو الجُزءُ البارِزُ أعلى الجَمَلِ.
قال سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: «قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، خَلِّني فأنْتَخِبَ مِنَ القَومِ مِائةَ رَجُلٍ»، والمَعنى: اتْرُكْني فأختارَ مِائةَ رَجُلٍ سَريَّةً وجَيشًا صَغيرًا، فلا أُبقي مِنهم أحَدًا يُخبِرُ قَومَهم عنهم إلَّا قَتَلْتُه، «فضَحِكَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى بَدَتْ نَواجِذُه»، وهي أنْيابُه، وقيلَ: أضْراسُه، حتَّى لمعت في ضَوءِ النَّارِ الَّتي يَشْوُون عليها لحْمَ الإبلِ، ولعلَّ هذا مِن إعجابهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقَولِ سَلَمةَ مع ما سَبَقَ منه مِن شَجاعةٍ وإقدامٍ، فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «يا سَلَمةُ، أتُراكَ كُنتَ فاعِلًا؟» أي: أتَظُنُّكَ كُنتَ فاعِلًا ذلك لو أذِنتُ لكَ فيه؟ «قُلتُ: نَعَمْ والذي أكرَمَكَ»، يُقسِمُ باللهِ عزَّ وجلَّ الَّذي كَرَّمَ نَبيَّه بالرِّسالةِ وشَرَفِ النُّبوَّةِ؛ فهو يُؤكِّدُ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهذا القَسَمِ أنَّه كانَ سَيَتبَعُهم لو أذِنَ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّهمُ الآنَ لَيُقرَوْنَ في أرضِ غَطَفانَ»، يَعني: أنَّهم قد بَلَغوا بَني غَطَفانَ، وهم يُكرِمونَهم بتَقديمِ الطَّعامِ وغَيرِه، وهذا إشارةٌ إلى أنَّ المُشرِكينَ الفارِّينَ قد دَخَلوا في جِوارِ قَبيلةٍ أُخرى، وهذا يُحَوِّلُ مَسارَ المَعرَكةِ مِن تَتبُّعٍ لِهارِبينَ إلى قِتالِ قَبيلةٍ بأكمَلِها، وهذا مِن مُعجِزاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ حيث أخبَرَ بما وقَعَ لهم بعْدَ غِيابِهم منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه تأكيدًا لِما قاله النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «فجاءَ رَجُلٌ مِن غَطَفانَ» إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابِه، وأخبَرَهم عن القومِ الفارِّين والهاربينَ مِن سَلَمةَ ومَن تَبِعَه مِن الفُرسانِ رَضيَ اللهُ عنهم، «فقالَ: نَحَرَ لهم فُلانٌ جَزورًا» أي: قد ذَبَحتْ قَبيلةُ غَطَفانَ لهم ناقةً، أو جَمَلًا، «فلَمَّا كَشَفوا جِلدَها» وهذا كِنايةٌ عن سَلخِها، واستِعدادًا لِطَهْوِها لهم «رَأوْا غُبارًا» أي: إنَّهم شاهَدوا غُبارًا يَظهَرُ لهم مِن بَعيدٍ، «فقالوا: أتاكُمُ القَومُ»، أيِ: ما زال المسْلِمون يَتْبَعونكم بفَوارِسِهم، فخَرَجوا هارِبينَ مِن قَبيلةِ غَطَفانَ خَوفًا على أنفُسِهم.
قال سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: «فلَمَّا أصبَحْنا، قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كان خَيرَ فُرسانِنا اليَومَ أبو قَتادةَ»، والفارِسُ هو مَن يُقاتِلُ على فَرَسِه، ويَكونُ له ثَلاثةُ أسهُمٍ مِنَ الغَنيمةِ؛ سَهمانِ لِفَرَسِه، وسَهمٌ لِنَفسِه، «وخَيرَ رَجَّالَتِنا سَلَمةُ»، والرَّجَّالةُ: جَمعُ راجِلٍ، وهو مَن يُقاتِلُ على رِجلِه، ويَكونُ له سَهمٌ واحِدٌ، وهذا مِن الثَّناءِ على الشُّجعانِ وأهلِ الفضلِ، لا سيَّما عندَ صَنيعِهم الجميلِ؛ لِما فيه مِن التَّرغيبِ لهم ولغَيرِهم في الإكثارِ مِن ذلك الجَميلِ.
قالَ سَلَمةُ بنُ الأكوَعِ رَضيَ اللهُ عنه: «ثم أعْطاني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَهمَيْنِ: سَهمَ الفارِسِ، وسَهمَ الرَّاجِلِ، فجَمَعَهما لي جَميعًا»، وهذا مَحمولٌ على أنَّ الزَّائِدَ على سَهمِ الرَّاجِلِ كانَ نَفلًا، وهو حَقيقٌ باستِحقاقِه رَضيَ اللهُ عنه؛ لِبَديعِ صُنْعِه في هذه الغَزوةِ، وقيلَ: أعطاهُ سَهمَ الفارِسِ؛ لِأنَّه أغْنى ما لم تُغنِ فَوارِسُ، ولِأنَّه استَنقَذَ الغَنائِمَ قَبلَ أنْ يَلحَقَه الجَيشُ، وقيلَ: يُحتَمَلُ أنَّه أعطاهُ له مِن الخُمُسِ، «ثمَّ أرْدَفَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ»، أي: أركَبَني «وَراءَه على العَضْباءِ راجِعينَ إلى المَدينةِ»، والعَضباءُ: لَقَبُ ناقةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والعَضباءُ: مَشقوقةُ الأُذُنِ، ولم تَكُنْ ناقَتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كذلك، وإنَّما هو لَقَبٌ لَزِمَها. قالَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: «فبيْنما نحْنُ نَسيرُ» أي: راجِعِين إلى المدينةِ، «وكانَ رَجُلٌ مِنَ الأنصارِ لا يُسبَقُ شَدًّا»، أي: سَريعَ الجَرْيِ، لا يَسبِقُه غَيرُه، والأنصارُ: هُم أهلُ المدينةِ، فجَعَلَ هذا الرَّجُلُ «يَقولُ: ألَا مُسابِقٌ إلى المَدينةِ؟ هل مِن مُسابِقٍ؟ فجَعَلَ يُعيدُ ذلك» تَحفيزًا وتَشجيعًا لهم، قالَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: «فلَمَّا سَمِعتُ كَلامَه قُلتُ: أمَا تُكرِمُ كَريمًا ولا تَهابُ شَريفًا؟» والمَعنى: ألَا تَستَحي ولا تَخافُ ولا تَحتَرِمُ أحَدًا؟ قالَ الرَّجُلُ: «لا، إلَّا أنْ يَكونَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ» فهو المُهابُ والكريمُ، والرَّجلُ بهذا لا يَقصِدُ الانتقاصَ مِن قَدْرِ صَحابةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنَّما يَقصِدُ تَحفيزَهم لأجْلِ أنْ تَأخُذَهم الحَميَّةُ، فيَطلُبوا مُسابَقتَه، وهو ما فَعَله سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه؛ فقالَ «قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، بأبي أنتَ وأُمِّي» أي: فِداكَ أبي وأُمِّي، «ذَرْني فَلأُسابِقَ الرَّجُلَ»، يَستَأذِنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَترُكَه يُسابِقُ هذا الرَّجُلَ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنْ شِئتَ»، بمَعنى: الأمرُ مَتروكٌ لِرَغبَتِكَ في المُسابَقِة معه، قالَ سَلَمةُ لِلرَّجُلِ: «اذهَبْ إليكَ» تَنَحَّ عَنِّي وتَباعَدْ في الذَّهابِ قَبْلي، وهذا مِن شِدَّةِ وُثوقِ سَلَمةَ رَضيَ اللهُ عنه بأنَّ هذا المتسابِقَ لا يَغلِبُه، ويَحتمِلُ المعنى: اذهَبْ إلى الجهةِ الَّتي تُريدُ المسابقةَ فيها، «وثَنَيتُ رِجلَيَّ» أي: جَعَلَها في وَضعِ الاستعدادِ للجَرْيِ، «فطَفَرتُ فعَدَوتُ»، أي: وَثَبتُ وقَفَزتُ مِن مَكاني لِأَجْريَ وأسرعت وَراءَه، قال: «فرَبَطتُ عليه شَرَفًا أو شَرَفَيْنِ أسْتَبقي نَفَسي»، أيْ: حَبَستُ نَفْسي ومَنَعتُها مِنَ الجَري الشَّديدِ إلى أنْ سَبَقَني لِمَسافةِ شَرَفٍ أو شَرَفَيْنِ، والشَّرَفُ: ما ارتَفَعَ مِنَ الأرضِ، أو هو الشَّوطُ الواحِدُ مِنَ السِّباقِ، ومَعناه: تَرَكتُه مِقدارًا مِنَ الزَّمَنِ، «ثمَّ عَدَوتُ في إثْرِه»، فجَرَيتُ خَلفَه، «فرَبَطتُ عليه شَرَفًا أو شَرَفَيْنِ» لِئلَّا يَنقَطِعَ مِن شِدَّةِ الجَرْيِ، ولَعَلَّ المُرادَ: إنِّي لم أبذُلْ في بِدايةِ الأمْرِ قُصارى قُوَّتي في الجَريِ؛ لِئلَّا يَنقَطِعَ نَفَسي، بلِ استَبقَيتُه لِيُمكِنَ لي الإسراعُ عِندَما أقتَرِبُ مِنَ الرَّجُلِ، «ثمَّ إنِّي رَفَعتُ»، أي: أسرَعتُ إسراعًا شَديدًا؛ لِكَي ألحَقَه وأُدرِكَه، قال: «فأصُكُّهُ بيْنَ كَتِفَيْه» أي: ضربُه بيَدَه بيْنَ كَتِفَيْه، لتَنبيههِ على أنَّه قدْ لَحِقَ به، «قُلتُ: قد سُبِقتَ واللهِ»، يُؤكِّدُ فَوْزَه عليه وهو يمُرُّ بجانبِه، فقالَ الرَّجُلُ: «أنا أظُنُّ»، أيْ: أظُنُّ ذلك واقعًا، فسَبَقَه سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه إلى المدينةِ.
وأخبَرَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه: «فواللهِ ما لَبِثْنا»، أي: ما بَقِينا في المَدينة بعْدَ هذا الأمرِ، «إلَّا ثَلاثَ لَيالٍ حتَّى خَرَجْنا إلى خَيبَرَ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ»، وخَيبَرُ: قَريةٌ يَسكُنُها يَهودٌ في شَمالِ غَربِ الجزيرةِ العربيَّةِ وعلى بُعدِ حَوالَي 168كم مِنَ المَدينةِ، مِن جِهةِ الشَّامِ، وكانَتْ غَزوةُ خَيبَرَ في السَّنةِ السَّابِعةِ مِنَ الهِجرةِ بيْنَ المُسلِمينَ واليَهودِ، «فجَعَلَ عَمِّي عامِرٌ يَرتَجِزُ بالقَومِ»، يُنشِدُ الشِّعرَ، تَشجيعًا وتَسليةً لهم، ويَقولُ: «تاللهِ لولا اللهُ ما اهتَدَيْنا * ولا تَصَدَّقْنا ولا صَلَّيْنا»، والمعنى: لولا هِدايَتُكَ لنا يا رَبَّنا وبإرسالِكَ نَبيَّكَ ما اهتَدَيْنا إلى الحَقِّ والإسلامِ وأعمالِه مِنَ الصَّدَقةِ والصَّلاةِ، «ونحن عن فَضلِكَ ما استَغنَيْنا * فثَبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقَيْنا * وأنزِلَنْ سَكينةً علينا»، يَطلُبُ الثَّباتَ والطُّمأنينةَ وعَدَمَ الفَزَعِ عِندَ لِقاءِ العَدُوِّ، فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مَن هذا؟ قالَ: أنا عامِرٌ» ابنُ الأكوَعِ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «غَفَرَ لكَ رَبُّكَ»، لَمَّا أعجَبَه الشِّعرُ، قالَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه مُعقِّبًا على استغفارِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لعَمِّه: «وما استَغفَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِإنسانٍ يَخُصُّه إلَّا استُشهِدَ» أي: ماتَ شَهيدًا في سَبيلِ اللهِ تَعالَى، «فنادَى عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وهو على جَمَلٍ له: يا نَبيَّ اللهِ، لولا ما مَتَّعتَنا بعامِرٍ»، والمَعنى: أنَّه تَمَنَّى أنْ لو يُطيلُ اللهُ في عُمُرِ عامِرِ بنِ الأكوَعِ؛ لِيَتمَتَّعوا بصَوتِه وإنشادِه؛ لِأنَّه عَلِمَ أنَّ استِغفارَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له يُوجِبُ قَتلَه شَهيدًا، قال: «فلَمَّا قَدِمْنا خَيبَرَ خَرَجَ مَلِكُهم» وهو رَئيسُهم، واسمُه: «مَرحَبٌ، يَخطِرُ» أي: يَضرِبُ بسَيفِه، ويُشيرُ به فيَرفَعُه تارةً ويُنزِلُه أُخرى، «ويَقولُ: قد عَلِمَتْ خَيبَرُ أنِّي مَرحَبُ * شاكي السِّلاحِ»، أيْ: قَويُّ السِّلاحِ، «بَطَلٌ مُجَرَّبُ» بالشَّجاعةِ وقَهْرِ الفُرسانِ، «إذا الحُروبُ أقبَلَتْ تَلَهَّبُ»، يَعني تَلتَهِبُ وتَشتَعِلُ نارُها، «وبَرَزَ له عَمِّي عامِرٌ»، أي: خَرَجَ له عامِرٌ لِيُبارِزَه، فقالَ: «قد عَلِمَتْ خَيبَرُ أنِّي عامِرُ * شاكي السِّلاحِ بَطَلٌ مُغامِرُ» يَركَبُ غَمَراتِ الحَربِ وشَدائِدَها، ويُلقي بنَفْسِه فيها، قال سَلَمةُ: «فاختَلَفا ضَربَتَيْنِ»، فضَرَبَ كُلٌّ منهما الآخَرَ ضَربةً في ضَربتَيْنِ مُتَعاقِبتَيْنِ، «فوَقَعَ سَيفُ مَرحَبٍ في تُرْسِ عامِرٍ»، وهو الدِّرعُ الَّتي يُتَّقي بها ضَرَباتُ السَّيفِ، «وذَهَبَ عامِرٌ يَسفُلُ له»، أي: قَصَدَ عامِرٌ أنْ يَضرِبَه مِن أسفَلِه، «فرَجَعَ سَيفُه على نَفْسِه فقَطَعَ أَكْحَلَه»، والمَعنى: أنَّ عامِرًا أخطَأ في ضَربِ السيَّفِ؛ فضَرَبَ نَفْسَه وقَطَعَ عِرقَه الأَكْحَلَ، وهو عِرقٌ في البَدَنِ في كُلِّ عُضوٍ وَريدٌ منه، إذا قُطِعَ سالَ الدَّمُ بغَزارةٍ حتَّى يَموتَ صاحِبُه، "فكانَتْ فيها نَفْسُه" يَعني: فكانتْ سَبَبًا لِمَوتِه، وخرج سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه إلى نَفَرٌ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهم يَقولون: «بَطَلَ عَمَلُ عامِرٍ» يَزعُمونَ أنَّه قد حَبِطَ عَمَلُه، وأنَّه ليْس له أجْرٌ، زَعمًا منهم أنَّه قَتَلَ نَفْسَه بالسَّيفِ الَّذي ارتَدَّ عليه، فكَأنَّه قَتَلَ نَفْسَه، وقَتلُ النَّفْسِ حَرامٌ، «فأتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأنا أبْكي» حُزنًا على عَمِّه عامرٍ ولِبُطلانِه عَمَلَه، فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، بَطَلَ عَمَلُ عامِرٍ؟ قالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن قالَ ذلك؟ قالَ: قُلتُ: ناسٌ مِن أصحابِكَ، قالَ: كَذَبَ مَن قالَ ذلك»، والكذبُ هنا بمعنى الخَطأِ؛ لأنَّ العرَبَ تقولُ لمَن أخطَأَ: كذَبَ، يعني: أخطأَ مَن زَعَمَ ذلك، «بلْ له أجْرُه مَرَّتَيْنِ»، أجْرٌ لِجِهادِه، وأجرٌ لِشَهادَتِه.
وأخبَرَ سَلَمةُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أرسَلَه إلى علِيِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه، «وهو أرْمَدُ» به وَجَعٌ في العَينِ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لَأُعطيَنَّ الرَّايةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ ورَسولَه، أو يُحِبُّه اللهُ ورَسولُه»، والرَّايةُ هي عَلَمُ الجَيشِ الَّذي يُحمَلُ في الحُروبِ، والمَقصودُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَوفَ يُعطي الرَّايةَ لِرَجُلٍ يُحِبُّ اللهَ ويُحِبُّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكذلك يُحِبُّ اللهُ هذا الرَّجُلَ ويُحِبُّه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهذه شَهادةٌ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتَمنَّاها كُلُّ مُسلِمٍ، «فأتَيتُ عَلِيًّا، فجِئتُ به أقودُه»، آخِذًا بيَدِه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، «وهو أرْمَدُ، حتَّى أتَيتُ به رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ» فتَفَلَ رَسولُ اللهِ مِن رِيقِه في عَينَيْ علِيٍّ رَضيَ اللهُ عنه فشُفيَتا، وأعطاه الرَّايةَ، وخَرَجَ مَرحَبٌ فقالَ: قد عَلِمتْ خَيبَرُ أنِّي مَرحَبُ * شاكي السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ، إذا الحُروبُ أقبَلَتْ تَلَهَّبُ»، فكَرَّرَ قَولَه وشِعرَه؛ افتِخارًا بنَفْسِه، فجاوبَهُ علِيٌّ رَضيَ اللهُ عنه: «أنا الَّذي سَمَّتْني أُمِّي حَيدَرَهْ»، والحَيدَرةُ مِن أسماءِ الأسَدِ، سُمِّيَ بذلك لِغِلَظِه وقُوَّتِه، ومُرادُه: أنا الأسَدُ في جَراءَتِه وإقدامِه وقُوَّتِه، «كَلَيثِ الغاباتِ كَريهُ المَنظَرَهْ» أُشبِهُ أسَدَ الغاباتِ في فَظاعةِ شَكلِه عِندَ الغَضَبِ، «أُوَفِّيهم بالصَّاعِ كَيلَ السَّندَرَهْ» يعني: أقتُلُ الأعداءَ قَتلًا ذَريعًا واسِعًا وأُوَفِّيهم حَقَّهم مِنَ القَتلِ، والسَّندَرةُ: مِكيالٌ واسِعٌ، وقيلَ: العَجَلةُ، فالمَعنى: أقتُلُهم قَتلًا عَجِلًا، وقيلَ: شَجَرةٌ قَويَّةٌ، وهي الصَّنوبَرُ، «قالَ» سَلَمةُ: «فضَرَبَ رَأسَ مَرحَبٍ فقَتَلَه، ثمَّ كانَ الفَتحُ على يَدَيْه»، فحَدَثَ فَتحُ خَيبَرَ على يَدَيْ علِيٍّ رَضيَ اللهُ عنه.
وفي الحَديثِ: بَيانُ ما كانَ عليه أصْحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن إيثارِ الآخِرةِ على الدُّنيا، والشَّهادةِ في سَبيلِ اللهِ على الحَياةِ.
وفيه: الثَّناءُ على الشُّجعانِ وسائِرِ أهلِ الفَضائِلِ، ولا سِيَّما عِندَ صَنيعِهمُ الجَميلَ؛ لِمَا فيه مِنَ التَّرغيبِ لهمْ ولِغَيرِهم في الإكثارِ مِن ذلك الجَميلِ، وهذا كُلُّه في حَقِّ مَن يَأْمَنُ الفِتنةَ عليه بإعجابٍ ونَحوِه.
وفيه: بَيانُ شَجاعةِ سَلَمةَ بنِ الأكوَعِ ومَنقَبتِه.
وفيه: فَضلٌ ومَنقبةٌ لعامرِ بنِ الأكوعِ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه: أنَّ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُوزِّعَ الغَنائِمَ كيف شاءَ على المُقاتِلينَ، وأنْ يَزيدَ مَنْ كانَ له بَلاءٌ في القِتالِ.
وفيه: بَيانُ اختِلافِ أسْهُمِ المُحارِبينَ في الجِهادِ؛ لاختِلافِ دَورِ كُلٍّ مِنهم، ولِاختِلافِ جُهدِه.
وفيه: فَضلٌ ومَنقَبةٌ لِعلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه: قُوَّةُ العَلاقةِ بيْنَ القائدِ وأتباعِه؛ وتَجلَّى ذلك في مُبايَعتِهم على الموتِ، وسُرْعةِ إجابَتِهم طَلَبَ القائدِ، وعَدَمِ التَّردُّدِ.
وفيه: أنَّ الصِّدقَ في الإيمانِ سَبيلٌ إلى تَحصيلِ رِضَا الرَّحمنِ، وتأْييدِه.