مسند أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه 37
حدثنا يعلى، ويحيى بن سعيد، قال يحيى قال (2) : حدثني رجل - كنت أسميه فنسيت اسمه - عن عمر بن سعد، قال: كانت لي حاجة إلى أبي سعد، قال (1) : وحدثنا أبو حيان، عن مجمع، قال: كان لعمر بن سعد إلى أبيه حاجة، فقدم بين يدي حاجته كلاما مما يحدث الناس يوصلون لم يكن يسمعه، فلما فرغ قال: يا بني قد فرغت من كلامك؟ قال: نعم. قال: ما كنت من حاجتك أبعد، ولا كنت فيك أزهد مني منذ سمعت كلامك هذا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سيكون قوم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر من الأرض "
مَن كَثُرَ كَلامُه كَثُرَ خَطَؤُه، ومَنِ اعتادَ ذلك فإنَّه يَصعُبُ عليه الرُّجوعُ إلى الصَّوابِ، وإلى إمساكِ لِسانِه، حتى إنَّه لَيَتلذَّذُ بالكَلامِ، ويَتشدَّقُ بلِسانِه مُسْتَسيغًا ومُتلذِّذًا بفَصاحَتِه وطَلاقةِ لِسانِه.
وفي هذا الحَديثِ "كان لِعُمَرَ بنِ سَعدٍ إلى أبيه حاجةٌ" يُريدُ عُمَرُ مِن أبيه سَعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يَقضيَ له حاجةً، "فقَدَّمَ بَينَ يَدَيْ حاجَتِه كَلامًا" فتَكلَّمَ بكَلامٍ؛ لِيَفوزَ بحاجَتِه مِن أبيه، ولكِنَّه كان كَلامًا "مِمَّا يُحدِّثُ الناسُ يُوَصِّلونَ" به إلى حاجاتِهم "لم يَكُنْ يَسمَعُه" مِن قَبلُ،
بل هو كَلامٌ مُبتَدَعٌ؛ لِأنَّ مِن آدابِ الإسلامِ أنْ يُقدِّمَ المَرءُ بَينَ يَدَيْ حاجَتِه كَلامًا طَيِّبًا فيه حَمدُ اللهِ والثَّناءُ عليه وعلى نَبيِّه "فلَمَّا فَرَغَ" عُمَرُ بنُ سَعدٍ مِن كَلامِه، قال سَعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ: "يا بُنَيَّ، قد فَرَغتَ مِن كَلامِكَ؟" يَعني هلِ انتَهَيتَ مِن مُقدِّمةِ كَلامِكَ؟ "قال: نَعَمْ.
قال: ما كُنتَ مِن حاجَتِكَ أبعَدَ، ولا كُنتُ فيكَ أزهَدَ مِنِّي مُنذُ سَمِعتُ كَلامَكَ هذا" وهذا ذَمٌّ له وتَقريعٌ على كَلامِه الذي قاله مُخالِفًا فيه الهَدْيَ والسُّنَّةَ،
ثم قال سَعدٌ رَضيَ اللهُ عنه: "سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقولُ: سَيكونُ قَومٌ يأكلونَ بألسِنَتِهم" يَتوَسَّلونَ بألسِنَتِهم إلى تَحصيلِ ما يأكُلونَ "كما تأكُلُ البَقَرُ مِنَ الأرضِ" كما تَتوسَّلُ البَقَرةُ بلِسانِها إلى الأكلِ بالاحتِشاشِ،
وسُمَّيَ التَّوسُلُ إلى تَحصيلِ المأكولاتِ والمَشروباتِ أكلًا، ويُحتَمَلُ أنَّه جَعَلَ أكلَهم ما حَصَّلوه بكَلامِهمُ الذي هو مِن نَتائِجِ ألسِنَتِهم وحَصائِدِهم أكلًا باللِّسانِ، ثم مَثَّلَه بأكْلِ البَقَرةِ باللِّسانِ؛ لِمَعنيَيْنِ: أحَدُهما: أنَّهم لا يَهتَدونَ مِنَ المأكَلِ إلَّا ببَذلِ مِثلِ هذا الكَلامِ، كما أنَّ البَقَرةَ لا تَتمكَّنُ مِنَ الاحتِشاشِ إلَّا بلِسانِها، والآخَرُ: أنَّهم في مَغزاهم ذلك كالبَقَرةِ التي لا تَستطيعُ أنْ تُميِّزَ في رَعيِها بَينَ الرَّطبِ والشَّوكةِ، وبَينَ الحُلوِ والمُرِّ، بل تَلُفُّ الكُلَّ بلِسانِها لَفًّا، فكذلك هؤلاء الذين يَتَّخِذونَ ألسِنَتَهم ذَريعةً إلى مأكَلِهم، فلا يُميِّزونَ بَينَ الحَقِّ والباطِلِ، ولا بَينَ الحَلالِ والحَرامِ.
وفي الحَديثِ: الزَّجرُ عن كَثرةِ الكَلامِ دونَ تَحرُّزٍ، أوِ احتياطٍ، وعنِ التَّكلُّفِ المَذمومِ والتَّشدُّقِ والتَّفاصُحِ.