‌‌مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه 29

‌‌مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه 29

حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: وحدثني حسين بن عبد الله، عن عكرمة مولى ابن عباس
عن ابن عباس، قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد بن سهل يحفر لأهل المدينة فكان يلحد، فدعا العباس رجلين، فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة، وللآخر: اذهب إلى أبي طلحة، اللهم خر لرسولك. قال: فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء به، فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم

النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- مع عَظيمِ قَدْرِه ومَنزلتِه عِندَ اللهِ تعالى- بَشَرٌ من البَشرِ، وقد ماتَ ودُفنَ في المكانِ الذي ماتَ فيه، وقد اختار اللهُ تعالى لنبيِّه أفضلَ شَيءٍ في دَفْنِه.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ أنَس بْنُ مَالكٍ رضِيَ اللهُ عنه عن دَفْنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فيقول: «لَمَّا تُوفِّيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان بالمَدينة رَجُلٌ يَلْحَدُ»، واللَّحْدُ: عبارة عن شَقٍّ بِطولِ المَيِّتِ يُحفَرُ في جَنبٍ من جَوانبِ القَبْرِ ويُوضَعُ فيه المَيِّتُ، ثُمَّ يوضَعُ الطُّوبُ اللَّبِنُ مِن خَلفِه حتى يَسنِدَه من الوقوعِ من ذلك الشَّقِّ، وكان اللاحِدُ هو أبا طَلْحةَ الأنْصاريَّ رضِيَ اللهُ عنه، «وَآخَرُ يَضْرَحُ»، أي: يقول بعمل الضَّريحِ، وهو القبرُ، والضَّرْحُ أو الشَّقُّ حُفْرةٌ مُستَطيلةٌ في وسَطِ القَبرِ، تُبْنى جَوانِبُها باللَّبِنِ، أو غيره، يُوضَع فيه المَيِّتُ، ويُسقَّفُ عليه باللَّبِنِ، أو الخَشَبِ، أو غيرهما، ويُرفَع السَّقفُ قَليلًا، بحيث لا يَمسُّ المَيِّتَ، وكان أبو عُبيدةَ رضِيَ اللهُ عنه مَن يَقوم بذلك، وفي رِوايةٍ أخْرى لابنِ ماجَهْ من حديثِ عائِشةَ- رَضي الله عنها- قالتْ: «اخْتَلَفوا في اللَّحدِ والشَّقِّ، حتى تَكلَّموا في ذلك، وارْتَفعَتْ أصْواتُهم»، أي: أيُّهما أفْضلُ، أو أيُّهُما يُدفنُ فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال أنس- رضي الله عنه: «فقالوا: نَستَخيرُ رَبَّنا، وَنبعَث إليهما، فأيُّهُما سَبقَ تَركْناهُ»، أي: نَسألُ اللهَ أن يُوفِّقَنا لأَفْضلِهما، أو أيُّهما يُدفَنُ فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان الشَّقُّ عَادةَ أهْلِ مَكةَ، واللَّحدُ عَادةَ أهْلِ المَدينةِ، «فَأُرسِلَ إليهما، فَسَبقَ صاحِبُ اللَّحدِ، فَلَحَدوا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ»؛ فارتَفَعَ بذلك النِّزاعُ بَينهم في ذلك، واخْتارَ اللهُ لِنبيهِ اللَّحدَ، وهو أسْترُ للمَيِّتِ وأفضلُ، وبذلك يكون النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد وافقَ أهْلَ المَدينةِ في صِفةِ الدَّفنِ، واخْتارَ اللهُ له ذلك( ).