‌‌مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه126

مسند احمد

‌‌مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه126

حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا علي بن علي، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم غرز بين يديه غرزا، ثم غرز إلى جنبه آخر، ثم غرز الثالث فأبعده، ثم قال: " هل تدرون ما هذا؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " هذا الإنسان، وهذا أجله، وهذا أمله يتعاطى الأمل والأجل، يختلجه دون ذلك " (3)

وضَّح النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أحاديثَ كَثيرةٍ تَعلُّقَ ابنِ آدمَ بالدُّنيا، وطُولَ آمالِه وأحلامِه رَغمَ قِصَرِ عُمرِه، وضرَبَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمثِلةً كَثيرةً تُوضِّحُ ذلك وتُبيِّنُه.
ومِن ذلك ما يَرْويه أبو سعيدٍ الخُدْريُّ رضِيَ اللهُ عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم غَرَزَ بيْن يَدَيْه غَرْزًا"، أي: ثبَّتَ أمامَه في الأرضِ شَيئًا مِثلَ عُودٍ، أو عَصًا، أو ما شابَهَ ذلك، "ثمَّ غرَزَ إلى جَنْبِه آخَرَ، ثمَّ غرَزَ الثَّالثَ فأبْعَدَه، ثمَّ قال: هلْ تَدْرونَ ما هذا؟" أي: ما تُعبِّرُ عنه هذه الأشياءُ التي غَرَزْتُها؟ "قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ" وهذا مِن حُسْنِ الأدبِ، مع انْتِظارِ ما سيُوضِّحُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبَيانِ مَقصودِه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "هذا الإنسانُ"، يَقصِدُ الغَرْزَ الأوَّلَ، "وهذا أجَلُه" يَقصِدُ الغرْزَ الثَّانيَ القريبَ مِن الإنسانِ، "وهذا أمَلُه" يَقصِدُ الغرْزَ الثَّالثَ البعيدَ عن الإنسانِ وعن أجَلِه، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ آمالَ الإنسانِ كَثيرةٌ تَتعدَّى عُمرَه وأجَلَهُ، ومِن عادةِ الإنسانِ أنَّه "يَتعاطَى الأمَلَ" فيَمُدُّ نَظَرَه إلى أمَلِه البعيدِ، "يَختَلِجُه دونَ ذلك" فيَخطَفُه الأجَلُ الذي هو أقرَبُ إليه مِن أمَلِه الطَّويلِ؛ فآمالُ الإنسانِ وأحلامُه أطولُ مِن عُمرِه؛ فعُمرُه يَنتهي وأجَلُه يَحضُرُ وهو ما زال يَحلُمُ ويأْمُلُ أنْ يَبْقَى في الدُّنيا.وإذا عَلِمَ الإنسانُ ذلك فعَلَيه بالعمَلِ الصَّالحِ قبْلَ فَواتِ العُمرِ، ولْيُقصِّرِ الأمَلَ في الدُّنيا، وعليه العَمَلُ بما يتَناسَبُ مع حالِها وحَقيقتِها.
وفي الحديثِ: التَّعليمُ بضَرْبِ المَثَلِ الحِسيِّ المنظورِ؛ لِيَكونَ أدْعى إلى تَعليمِ السَّامعينَ بسُرعةٍ؛ لِيُدركوا ذلك بسَمْعِهم وبَصَرِهم.
وفيه: التَّنبيهُ على أنَّ الأجَل مَقْسومٌ مَعلومٌ لا يَتجاوَزه مُتجاوِزٌ.
وفيه: أنَّ الأجَلَ لا يَعلَمُه أحدٌ إلَّا اللهُ سبحانه وتعالى، وأنَّه غُيِّب عن الآدميِّينَ؛ ولذلك تَجاوزَتْه الآمالُ، وبعَّدتْه الأطماعُ.
وفيه: أصلٌ مِن أُصول الحقِّ المُبدي عَورةَ الدُّنيا؛ فإنَّ مَدارَها على طُولِ الأمَلِ، وهو الذي يُثمِرُ التَّسويفَ بأعمالِ الخَيرِ، والصَّبرَ على أعمالِ الشَّرِّ .