مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه519
مسند احمد
حدثنا محمد بن مصعب، قال: حدثنا الأوزاعي، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري، أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي إبلا (1) وإني أريد الهجرة، فما تأمرني؟ قال: " هل تمنح منها؟ " قال: نعم. قال: " وتؤدي زكاتها (1) ؟ "، قال: نعم. قال: " وتحلبها يوم وردها؟ "، قال: نعم. فقال: " انطلق، واعمل وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئا، وإن شأن الهجرة شديد " (2)
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أبو سَعيدٍ الخُدريُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ أعرابيًّا -وهو الذي يَسكُنُ الصَّحراءَ مِن العرَبِ- طَلَبَ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُبايِعَه على الهجرةِ إلى المدينةِ، ولم يَكُن مِن أهلِ مكَّةَ الذين وجَبَت عليهِمُ الهِجرةُ قبْلَ الفَتحِ، والمرادُ بالهجرةِ الَّتي سَأَلَ عنها هذا الأعرابيُّ: مُلازَمةُ المدينةِ مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وترْكُ أهْلِه ووَطنِه، فخافَ عليه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ألَّا يَقوَى لها، ولا يَقومَ بحُقوقِها، وأنْ يَنكِصَ على عَقِبَيْهِ، فقال له صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَيْحَك!»، وهي كلِمةُ تَرحُّمٍ وتَوجُّعٍ لِمَن وقَع في هَلَكةٍ لا يَستحِقُّها، إنَّ القيامَ بحقَّ الهِجرةِ الَّتي سَألْتَ عنها لَشَديدٌ، لا يَستطيعُ القيامَ بها إلَّا القليلُ، والظاهرُ أنَّها كانت مُتعذِّرةً على السَّائلِ شاقَّةً عليه، ولذا لم يُجِبْ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذا الأعرابيَّ إليها، وسَأَلَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «فهَل لك مِن إِبلٍ؟» قال: نعَمْ، فسَأَلَه صلَّى الله عليه وسلَّم: هل تُؤدِّي زَكاتَها المفروضةَ؟ قال: نعَمْ. فسَأَله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فهلْ تَمنَحُ مِنها شَيئًا؟» قال: نعم، والمنيحةُ هِي: النَّاقَةُ أو الشَّاةُ ذَاتُ اللَّبَنِ تُعطَى لِيُنتَفَعَ بِلَبَنِها، ثُمَّ تُرَدُّ إلى أصحابِها، وقدْ تَقَعُ المِنحةُ على الهِبةِ مُطلَقًا لا على سَبيلِ القَرْضِ، ولا العاريَّةِ.
فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: فاعْمَلْ بالخيرِ مِن وَراءِ البِحَارِ في وَطَنِك، أيْ: مِن وَراءِ القُرى والمدُنِ والعربُ تُسمِّي القُرى: البِحارَ، والقريةَ: البُحَيرةَ؛ فإنَّ اللهَ لنْ يَنقُصَك مِن ثَوابِ عَملِك شَيئًا، فحَيثُما كنتَ فسَينفَعُك ما فعَلْتَه مِن الخيرِ، وكأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: إذا كُنتَ تُؤدِّي فرْضَ اللهِ عليكَ في نفْسِك ومالِكَ، فلا تُبالِ أنْ تُقِيمَ في بَيتِك ولو كُنتَ في أبعَدِ مَكانٍ؛ فلنْ يَنقُصَك اللهُ أجْرَ ما صنَعْتَ مِن الخيرِ.
قيل: إنَّ تلك القِصَّةَ وقَعَت بعْدَ فتْحِ مكَّةَ، وقد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لا هِجرةَ بعْدَ الفتْحِ» مُتَّفقٌ عليه. وقيل: إنَّ الهِجرةَ كانتْ على غيرِ أهْلِ مكَّةَ مِن الرَّغائبِ والمُستحبَّاتِ، ولم تكُنْ فَرْضًا.
وفي الحديثِ: تَعظيمُ شَأنِ الهِجرةِ والمهاجِرينَ.
وفيه: فضْلُ أداءِ زَكاةِ الإبلِ والمُسارعةِ في الخَيراتِ.