مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه659
مسند احمد
حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن عطية بن قيس، عن قزعة، عن أبي سعيد الخدري قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل عام الفتح في ليلتين خلتا من رمضان، فخرجنا صواما، حتى بلغنا الكديد فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفطر، فأصبح الناس شرحين، منهم الصائم، والمفطر " (1)
في هذا الحديثِ توضيحٌ لبَعضِ الجوانبِ مِن فتْحِ مكَّةَ، وما فعَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيه؛ حيثُ يَروي عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما: "أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَضى لِسَفْرةٍ " وذلك في سفَرِه لِفَتحِ مكَّةَ عامَ ثمانيةٍ مِن الهِجرةِ، "وخرَجَ لِعَشرٍ مَضَينَ مِن رمضانَ"، أي: يومَ العاشرِ مِن رمضانَ، "فصام وصام الناسُ معه"، أي: صام وهو مُسافرٌ، وصام الناسُ لِصَومِه ولم يُفطِروا، "حتى إذا كان بالكَدِيدِ أفطَرَ" والكَدِيدُ: مكانٌ أو ماءٌ قريبٌ مِن مكَّةَ، وقد أفطَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا رأى مَشقَّةَ الصِّيامِ على الناسِ، ووقَفَ بناقَتِه حتى تجمَّعَ الناسُ، ورأَوه، فشَرِبَ ثم شَرِبوا، وأفْطَروا لفِطْرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "ثم مَضَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتى نزَلَ مَرَّ الظَّهرانِ" وهُو وادٍ على خمْسةِ أميالٍ مِن مكَّةَ إلى جِهَةِ المدينةِ، "في عشَرةِ آلافٍ مِن المسلمينَ، فسَمِعَتْ سُلَيمٌ ومُزَينةُ" وهما قَبيلتانِ مِن قبائلِ العرَبِ، "فلمَّا نزَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَرَّ الظَّهرانِ، وقد عَمِيَت الأخبارُ على قُريشٍ"، أي: خَفِيَت عليهم، "فلا يأْتِيهم خبَرُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولا يَدْرون ما هو فاعلٌ، وخرَجَ في تلك اللَّيلةِ أبو سُفيانَ بنُ حَرْبٍ، وحَكيمُ بنُ حِزامٍ، وبُدَيلُ بنُ وَرقاءَ" وهؤلاء مِن زُعماءِ قُريشٍ وسادتِها، وكانوا حينئذٍ كفَّارًا، وقد أسْلَموا بعدُ، "يَنظُرون هل يَجِدون خبَرًا أو يَسمَعُونه؟" أي: يتَحقَّقونَ مِن الخَبرِ ومَعرفةِ ما يَنوي عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فلمَّا نزَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَرَّ الظَّهرانِ.
قال العبَّاسُ بنُ عبدِ المطَّلِبِ رضِيَ اللهُ عنه: قلْتُ: وا صباحَ قُريشٍ!" وهذا مِن التَّوجُّعِ والتَّفجُّعِ عليهم؛ لِمَا سيَنالُهم مِن هذا الجيشِ، "لَئنْ دخَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مكَّةَ عَنْوةً"، أي: قَسْرًا وبالقُوَّةِ، "قبْلَ أنْ يأْتُوه، فيَستأمِنوه، إنَّه لَهلاكُ قُريشٍ إلى آخِرِ الدَّهرِ"، أي: دَمارُهم ومَوتُهم، "قال: فجلَسْتُ"، أي: رَكِبْتُ "على بَغلةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ البيضاءِ، فخرَجْتُ عليها حتى دخَلْتُ الأراكَ"، وهو شَجرٌ مِن أشجارِ الصَّحراءِ، وهو الذي يُؤخَذُ منه السِّواكُ، "فلَقِيَ بعضَ الحطَّابةِ" الذين يَجمَعون الحطَبَ وفُروعَ الأشجارِ الجافَّةَ، "أو صاحبَ لَبَنٍ"، أي: صاحبَ ماشيةٍ أو غنَمٍ يَراعاها؛ لِتَحلِبَ اللَّبنَ، "أو ذا حاجةٍ"، أي: صاحبَ حاجةٍ، "يأْتِيهم يُخبِرُهم بمكانِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِيَخرُجوا إليه" ومُرادُ العبَّاسِ رضِيَ اللهُ عنه أنْ يُرسِلَ رسولًا إلى قُريشٍ؛ لِيُشيرَ عليهم بالاستسلامِ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ خوفًا عليهم مِن القتالِ الذي ربَّما فيه هلاكُهم.
قال العبَّاسُ رضِيَ اللهُ عنه: "فإنِّي لَأُشِيرُ عليه وألْتمِسُ" بمعنى أطلُبُ، "ما خرَجْتُ له"، أي: ظَلَّ يَسِيرُ وهو راكبٌ بَغْلتَه، ويُتابِعُ البحثَ، وما زالَ على تلك الحالِ، "إذ سَمِعْتُ كلامَ أبي سُفيانَ وبُدَيلٍ وهما يَتراجعانِ"، أي: يُراجِعُ كلٌّ منهما الآخَرَ في الكلامِ ويَرُدُّ عليه، "وأبو سُفيانَ يقولُ: ما رأَيْتُ كاللَّيلةِ نِيرانًا قطُّ"؛ لكَثْرَتِها "ولا عَسْكَرًا" في عَدَدِه وقُوَّتِه، "قال بُدَيلٌ: هذه واللهِ خُزاعةُ حَمَشَتها الحرْبُ"، أي: أحرَقَتْها وهيَّجَتْها، "فقال أبو سُفيانَ: خُزاعةُ -واللهِ- أذَلُّ"، أي: أحقَرُ وأقلُّ "مِن أنْ يكونَ هذه نِيرانُهم"، وهذا مِن تَباحُثِهم حولَ هذا العدَدِ مِن الناسِ ومُرادِهم؛ مِن حَرْبٍ وغيرِها، قال العبَّاسُ رضِيَ اللهُ عنه: "فعرَفْتُ صَوتَ أبي سُفيانَ، فقلْتُ: يا أبا حَنظلةَ، قال: فعرَفَ صَوتي، فقال: أبو الفضْلِ؟" وهذه كُنْيةُ العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ، "قلْتُ: نعمْ، قال: ما لَكَ فِداكَ أبي وأُمِّي؟" والمعنى: ما لكَ خرَجْتَ هذه الساعةَ؟ فكأنَّك أتَيْتَ لأمْرٍ عظيمٍ، "قلْتُ: ويلكَ، هذا -واللهِ- رسولُ اللهِ في الناسِ، وا صباحَ قُريشٍ! واللهِ لَئنْ دخَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مكَّةَ عَنْوةً قبْلَ أنْ يَأتُوه فيَستأمِنوه، إنَّه لَهلاكُ قُريشٍ إلى آخِرِ الدَّهرِ. قال أبو سُفيانَ: "فما الحِيلةُ؟" أي: ما الوَسيلةُ للخُروجِ مِن هذا المأزَقِ؟ "فِداكَ أبي وأُمِّي" وهذا مِن الدُّعاءِ المُتعارَفِ عليه عندَ العرَبِ، "قلْتُ: لا واللهِ إلَّا أنْ تَركَبَ في عَجُزِ هذه الدابَّةِ"، أي: تَركَبُ على ظَهرِها خَلْفي، "فآتِي بك رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإنَّه واللهِ لَئنْ ظَفِرَ بك"، أي: أمسَكَ بك قبْلَ إسلامِك، "لَيَضرِبنَّ عُنُقَك، قال: فركِبَ في عَجُزِ البَغلةِ، ورجَعَ صاحِباهُ"، أي: رجَعَا إلى مكَّةَ، "قال: وكلَّما مرَرْتُ بنارٍ مِن نِيرانِ المسلمينَ، قالوا: مَن هذا؟ فإذا نظَروا قالوا: عمُّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على بَغلَتِه، حتى مرَرْتُ بنارِ عمَرَ بنِ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه، فقال: مَن هذا؟ وقام إلَيَّ، فلمَّا رآهُ على عَجُزِ الدابَّةِ عرَفَه. وقال: أبو سُفيانَ عدُوُّ اللهِ، الحمْدُ للهِ الذي أمكَنَ منك، وخرَجَ يَشتَدُّ"، أي: يَجْري "نحوَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وركَضَتِ البَغلةُ فسبَقَتْه كما تَسبِقُ الدابَّةُ البطيئةُ الرجُلَ البَطِيءَ، ثم اقتَحَمْتُ عن البَغلةِ" والمعنى: نزَلَ مُسرِعًا عن البَغلةِ، "ودخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وجاء عمَرُ رضِيَ اللهُ عنه فدخَلَ، فقال: يا رسولَ اللهِ، هذا أبو سُفيانَ قد أمكَنَ اللهُ منه بلا عقْدٍ ولا عَهدٍ"، أي: جاء أبو سُفيانَ قبْلَ أنْ يكونَ له عندك مِيثاقٌ بالأمانِ، "فدَعْني فأضْرِبَ عُنقَه" وهذا كِنايةٌ عن قتْلِه، قال العبَّاسُ رضِيَ اللهُ عنه: "قلْتُ: يا رسولَ الله، إنِّي قد أجَرْتُه"، أي: جعَلْتُه في جِواري وحِمايتي وذِمَّتي، "ثم جلَسْتُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأخَذْتُ برأْسِه، فقلْتُ: واللهِ لا يُناجِيه رجُلٌ دُوني، قال: فلمَّا أكثَرَ عمُرَ رضِيَ اللهُ عنه في شأْنِه، فقلْتُ: مَهلًا يا عُمَرُ، واللهِ لو كان رجُلًا مِن بني عَدِيِّ بنِ كعْبٍ ما قلْتَ هذا، ولكنْ قد عرَفْتَ أنَّه رجُلٌ مِن بني عبْدِ مَنافٍ" يُنكِرُ على عمَرَ رضِيَ اللهُ عنه مُرادَه مِن أبي سُفيانَ، وأنَّ هذا مَرجِعُه إلى عَصبيَّةٍ قَبَليَّةٍ، فقال عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه للعبَّاسِ؛ رَدًّا لكلامِه: "مَهلًا يا عبَّاسُ"! أي: تَمهَّلْ في كلامِك، "لَإسلامُك يومَ أسلَمْتَ كان أحبَّ إلَيَّ مِن إسلامِ الخطَّابِ"، والمعنى: أنَّ إسلامَ العبَّاسِ كان أحبَّ لِقلْبِ عمَرَ مِن إسلامِ أبيهِ الخطَّابِ، ثم بيَّن سبَبَ حُبِّه ذلك؛ فقال: "وما لي إلَّا أنِّي قد عرَفْتُ أنَّ إسلامَك كان أحبَّ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن إسلامِ الخطَّابِ"، فبيَّن عمَرُ أنَّ كلامَه في حقِّ أبي سُفيانَ، وفي حقِّ أيِّ أحدٍ؛ إنَّما هو تبَعٌ لمَرْضاةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للعبَّاسِ: "اذهَبْ به"، أي: بأبي سُفيانَ، "إلى رَحْلِك" وهي الخَيمةُ، "فإذا أصبَحْتَ فأْتِنا به، قال: فلمَّا أصبَحْتُ غدَوْتُ به"، أي: جِئتُ مُبكِّرًا "إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا رآهُ قال: وَيْحَك"! وهي كلمةُ ترحُّمٍ وتوجُّعٍ، تُقال لِمَن وقَعَ في هلَكةٍ لا يَستحِقُّها، "يا أبا سُفيانَ، ألمْ يأْنِ لك أنْ تَشهَدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ؟!" والمعنى: ألمْ يأْتِ الوقتُ لِتُسلِمَ طواعيةً؟! "قال: بأبي أنت وأُمِّي"، أي: فِداكَ أَبي وأُمِّي، "فما أحلَمَك"! أي: ما أكثَرَ صَبرَك وحِلْمَك، "وأكرَمَك"، أي: ما أكثَرَ كرَمَك وجُودَك "وأوصَلَك"، أي: ما أكثَرَ وصْلَك لمَن قطَعَ رَحِمَك! وهذا كلُّه تعجُّبٌ مِن بعضِ فَضائلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "أمَا واللهِ لقد كاد"، أي: قرُبَ "يقَعُ في نَفْسي أنْ لو كان مع اللهِ غيرُه لقدْ أغْنى شيئًا بعْدُ"، أي: لو كان هناك إلهٌ مع اللهِ يُشارِكُه في مُلْكِه لَنفَعَني، "وقال: ويلكَ يا أبا سُفيانَ! ألمْ يأْنِ لك أنْ تَشهَدَ أنِّي رسولُ اللهِ؟! قال: بأبي أنتَ وأُمِّي، ما أحلَمَك وأكرَمَك وأوصَلَك! أمَّا واللهِ هذه"، أي: الدُّخولُ في الإسلامِ "فإنَّ في النَّفْسِ منها حتَّى الآنَ شيئًا"، فما زالَ أبو سُفيانَ يشُكُّ في الإسلامِ وفي رِسالةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتى قال له العبَّاسُ رضِيَ اللهُ عنه: "وَيْلَك" والويْلُ كلمةٌ تُقالُ لِمَن وقَعَ في الهلاكِ أو لِمَن يَستحِقُّه، أو هي بِمعنى الهلاكِ، أو مَشقَّةِ العذابِ، أوِ الحُزنِ، "أسْلِمْ واشْهَدْ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ"، أي: انطِقْ بشَهادةِ التَّوحيدِ للهِ، واشهَدْ لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالرِّسالةِ "قبْلَ أنْ يَضرِبَ عُنُقَك" فيَقتُلَك، "قال: فشهِدَ شَهادةِ الحقِّ وأسلَمَ"، أي: دخَلَ في الإسلامِ.
قال العبَّاسُ رضِيَ اللهُ عنه: "فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أبا سُفيانَ رجُلٌ يُحِبُّ هذا الفخْرَ" وهو التَّباهي بيْن الناسِ؛ "فاجعَلْ له شيئًا" يُسَرُّ به ويَفتَخِرُ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "نعمْ؛ مَن دخَلَ دارَ أبي سُفيانَ فهو آمِنٌ، ومَن أغلَقَ عليه بابَه"، أي: مَن سَدَّ عليه بابَ دارِه "فهو آمِنٌ"، أي: مَن اعتزَلَ القِتالَ ودخَلَ أيَّ هذه الدُّورِ فهو في أمانٍ، قال العبَّاسُ رضِيَ اللهُ عنه: "فلمَّا ذهَبْتُ لِأنصَرِفَ، قال: يا عبَّاسُ، احبِسْهُ"، أي: طلَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن العبَّاسِ أنْ يَجعَلَ أبا سُفيانَ يَنتظِرُ، "بمَضيقِ الوادي عندَ حَطِيمِ الجُندِ"، أي: في المكانِ الضَّيِّقِ الذي يكونُ فيه تَزاحمُ الجُنودِ وكَثْرتُهم، "حتى يمُرَّ به جُنودُ اللهِ فيَراها، قال: فحبَسْتُه حيث أمَرَني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: ومرَّتْ به القَبائلُ على راياتِها بها، فكلَّما مرَّتْ قَبيلةٌ، قال: مَن هذه؟ قلْتُ: بنو سُلَيمٍ، قال: يقولُ: ما لي ولِبَني سُلَيمٍ؟" أي: لا شأْنَ لي بِهم، ولعلَّه يَستعظِمُ أمْرَ هذه القبائلِ أنْ تُقاتِلَها قُريشٌ وحْدَها، "ثمَّ تمُرُّ به قَبيلةٌ، فيقولُ: مَن هذه؟ فأقولُ: مُزَينةُ، فقال: ما لي ولمُزَينةَ؟" أي: لا شأْنَ لي بهم، "حتى نَفِدَتِ القَبائلُ، لا تمُرُّ به قَبيلةٌ إلَّا سأَلَني عنها، فأُخبِرُه، إلَّا قال: ما لي ولبني فُلانٍ؟ حتى مَرَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الخضراءِ كَتيبةٍ فيها المهاجِرون والأنصارُ رضِيَ اللهُ عنهم لا يُرى منهم إلَّا الحَدَقُ"، أي: حَدَقُ العُيونِ ومُقدَّمُها، "في الحَديدِ" تَظهَرُ مِن خِلالِ دُروعِ الحديدِ، "فقال: سُبحانَ اللهِ! مَن هؤلاء يا عبَّاسُ؟ قلْتُ: هذا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المهاجِرين والأنصارِ رضِيَ اللهُ عنهم، فقال: ما لِأحَدٍ بهؤلاء قِبَلٌ"، أي: ليس لِأحَدٍ قُدْرةٌ عليهم، "واللهِ يا أبا الفضْلِ، لقد أصبَحَ مُلْكُ ابنِ أخِيك الغَداةَ عظيمًا"، وهذا مِن تَبلْبُلِ فِكرِ أبي سُفيانَ في أمْرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومِن ظَنِّه أنَّه مَلِكٌ عظيمٌ، قال العبَّاسُ: "قلْتُ: وَيلَك يا أبا سُفيانَ! إنَّها النُّبوَّةُ"؛ فبيَّنَ له العبَّاسُ أنَّ شأْنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وما وصَلَ إليه مِن القوَّةِ؛ إنَّما هو مِن أمْرِ النُّبوَّةِ والرِّسالةِ مِن اللهِ، وهو الذي نصَرَه.
قال أبو سُفيانَ رضِيَ اللهُ عنه: "فنَعمْ، قال: قلْتُ: الْتجِئْ إلى قَومِك، اخْرُجْ إليهم، حتى إذا جاءَهم صرَخَ بأعلى صَوتِه"، أي: نادَى بأعْلى صَوتِه، "يا مَعشرَ قُريشٍ، هذا محمَّدٌ قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكمْ به"، أي: جاءكم بجَيشٍ لا قُدْرةَ ولا قُوَّةَ لكم عليه؛ "فمَن دخَلَ دارَ أبي سُفيانَ فهو آمِنٌ"، وهذا مِن العَهدِ والفخْرِ الذي خَصَّ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أبا سُفيانَ، "فقامَت إليه هِندُ بنتُ عُتبةَ بنِ رَبيعةَ" وهي زوجتُه، "فأخَذَتْ شارِبَه، فقالت: اقتْلُوا الحَمِيتَ الدَّسِمَ"، والمعنى: اقتُلوا هذا الرجُلَ الضَّخمَ السَّمينَ، والحَمِيتُ هو الزِّقُّ والإناءُ الذي يُوضَعُ فيه السَّمنُ ونحوُه، ويُشَبَّهُ الرجُلُ السَّمينُ الجسيمُ بالحَمِيتِ، "فبِئسَ طَليعةُ قَومٍ"، أي: هو أسْوأُ مَن يكونُ طليعةً لقَومٍ في حَرْبٍ، والطَّليعةُ: مَن يكونُ في مُقدِّمةِ الجيشِ؛ لِيَستطلِعَ أمْرَ العدُوِّ، قال أبو سُفيانَ رضِيَ اللهُ عنه: "وَيلَكم"، وهذه الكلمةُ هنا للتَّحذيرِ، "لا تَغُرَّنَّكم هذه مِن أنفُسِكم"، والمعنى: لا تُصِبْكم هذه المرأةُ بما يَغُرُّكم في قَوَّتِكم، "وإنَّه قد جاء ما لا قِبَلِ لكمْ به"، وهذا تأْكيدٌ منه بقُوَّةِ جَيشِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّهم لا يَقدِرون على حَرْبِه أو رَدِّه، ثم كرَّرَ قولَه: "مَن دخَلَ دارَ أبي سُفيانَ فهو آمِنٌ، قالوا: قاتَلَكَ اللهُ، وما يُغْني غَناءُ دارِك"؛ فإنَّها لا تَكْفي لكلِّ الناسِ ولا تَسَعُهم، "قال: ومَن أغلَقَ عليه بابَه فهو آمِنٌ"، فهذا أمانٌ عامٌّ لكلِّ مَن اعتزَلَ الحرْبَ ومكَثَ في دارِه.
وفي هذا الحديثِ: بَيانُ تَيسيرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الناسِ في السَّفرِ، وعندَ لِقاءِ العدُوِّ بالفِطرِ.
وفيه: العَفوُ عندَ المقدِرةِ، وحِرصُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على هِدايةِ الناسِ، وبُعدُ أخلاقِهِ عن الانتِقامِ .