مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه683
مسند احمد
حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا أنيس بن أبي يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وهو عاصب رأسه، قال: فاتبعته حتى صعد على المنبر، قال: فقال: " إني الساعة لقائم على الحوض " قال: ثم قال: " إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة "، فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر، فقال: بأبي أنت وأمي، بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، قال: ثم هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر، فما رئي عليه حتى الساعة (1)
جيلُ الصَّحابةِ خَيرُ القُرونِ، وهم أيضًا خَيرُ هذه الأمَّةِ؛ وذلك لِما قاموا به من نُصرةِ هذا الدِّينِ والصَّبرِ على الأذى في سَبيلِه، وكانوا سَبَّاقينَ في كُلِّ خَيرٍ، ومن خيارِ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بل أفضَلُهم على الإطلاقِ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه، فله منَ المَناقِبِ والفضائِلِ الشَّيءُ الكَثيرُ، وكان رَضيَ اللهُ عنه مِن أعلَمِ الصَّحابةِ وأفطَنِهم لِما يَقولُه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفي هذا الحَديثِ يُخبرُ أبو سَعيدٍ الخُدريُّ رَضيَ اللهُ عنه، فيَقولُ: خَرَجَ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَرَضِه الذي ماتَ فيه ونَحنُ في المَسجِدِ؛ وذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَما مَرِضَ مَرَضه الذي توفِّيَ فيه اشتَدَّ عليه المَرَضُ فجَلَسَ يُصَلِّي في بَيتِه وأمَرَ أبا بَكرٍ أن يُصَلِّيَ بالنَّاسِ، ثُمَّ إنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وجَدَ مِن نَفسِه شَيئًا مِنَ التَّحَسُّنِ فخَرَجَ إلى النَّاسِ وهم في المَسجِدِ وهو عاصِبٌ رَأسَه بخِرقةٍ، أي: قد رَبَطَ على رَأسِه قِطعةَ قُماشٍ مِن شِدَّةِ الألَمِ، حَتَّى أهوى نَحوَ المِنبَرِ، أي: أتى المِنبَرَ، فاستَوى عليه، أي: صَعِدَ على المِنبَرِ، واتَّبَعناه، أي: أنَّ الصَّحابةَ أقبَلوا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَتَّى يَستَمِعوا له. ثُمَّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: والذي نَفسي بيَدِه؛ إنِّي لأنظُرُ إلى الحَوضِ مِن مَقامي هذا، أي: يَرى حَوضَه في الآخِرةِ، وهو حَوضٌ عَظيمٌ يَشرَبُ مِنه المُؤمِنونَ يَومَ القيامةِ، ثُمَّ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ عَبدًا عُرِضَت عليه الدُّنيا وزينَتُها، فاختارَ الآخِرةَ، أي: هناكَ رَجُلٌ خُيِّر بَينَ أن يَبقى في الدُّنيا وما فيها مِنَ اللَّذَّاتِ والمَتاعِ، أو يَترُكَ ذلك كُلَّه ويَنتَقِلَ إلى الآخِرةِ وما فيها مِنَ النَّعيمِ المُقيمِ وجِوارِ رَبِّه الكَريمِ، فاختارَ الآخِرةَ على الدُّنيا، والمُرادُ بهذا العَبدِ هو نَفسُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقد خَيَّرَه اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بَينَ أن يَعيشَ في الدُّنيا ما شاءَ أن يَعيشَ فيها يَأكُلُ مِنَ الدُّنيا ما شاءَ أن يَأكُلَ مِنها، وبَينَ لقاءِ رَبِّه عَزَّ وجَلَّ، فاختارَ لقاءَ رَبِّه، وإنَّما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ عَبدًا، وأبهَمَه ليَنظُرَ فَهْمَ أهلِ المَعرِفةِ ونَباهةَ أصحابِ الحِذقِ؛ ولهذا لَم يَفطَنْ لَها أحَدٌ غَيرُ أبي بَكرٍ، أي: لَم يَفهَمْ لهذا المَثَلِ الذي ذَكَرَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إلَّا أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه؛ فقد عَلمَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو العَبدُ المُخَيَّرُ، فذَرَفت عَيناه فبَكى، أي: سالَتِ الدُّموعُ مِن عَيني أبي بَكرٍ، وذلك حُزنًا على فِراقِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وانقِطاعِ الوَحيِ وغَيرِه مِنَ الخَيرِ، ولَم يَفهَمِ الصَّحابةُ الحاضِرونَ ما فهمَه أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه. ثُمَّ قال أبو بَكرٍ: بَل نَفديك بآبائِنا وأُمَّهاتِنا وأنفُسِنا وأموالِنا يا رَسولَ اللهِ! أي: نُقدِّمُك ونُؤثِرُك على أعَزِّ ما عِندَنا مِنَ الآباءِ والأُمَّهاتِ والأنفُسِ والأموالِ. ثُمَّ هَبَطَ، أي: نَزَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ المِنبَرِ؛ فما قامَ عليه حَتَّى السَّاعةِ، أي: أنَّ تلك الخُطبةَ كانت آخِرَ ما حَدَّثَهم به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَم يَصعَدْ للمِنبَرِ بَعدَها أبَدًا!
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ حُضورِ المَريضِ للمَسجِدِ وخُطبَتِه للنَّاسِ.
وفيه مَشروعيَّةُ القَسَمِ لتَأكيدِ أمرٍ ما.
وفيه إثباتُ حَوضِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الآخِرةِ.
وفيه أنَّ الأنبياءَ لا يَموتونَ حَتَّى يُخَيَّروا بَينَ الدُّنيا والآخِرةِ.
وفيه اختيارُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للآخِرةِ.
وفيه مَشروعيَّةُ ضَربِ الأمثالِ لتَقريبِ الفَهمِ للسَّامِعينَ.
وفيه مَنقَبةٌ لأبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه .