حدثنا روح، حدثنا ابن جريج، وعبد الله بن الحارث، عن ابن جريج، قال: أخبرني زياد يعني ابن سعد، أن ابن شهاب أخبره، أن أنس بن مالك أخبره، " أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق يوما واحدا، ثم إن الناس اضطربوا الخواتيم من ورق ولبسوها، فطرح النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه، فطرح الناس خواتيمهم "
كان الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم يَمتَثِلون لأوامِرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونَواهيهِ، ويَقتَدون به في أقوالِه وأفعالِه، وقد علَّمَ أُمَّتَه الحلالَ والحرامَ في كلِّ شَيءٍ، وكان ربَّما يفعل الأمرَ أوَّلًا، ثم يَنزِلُ فيه الحُكمُ، فيَنهى عنه؛ ليُعَلِّمَ النَّاسَ أنَّ الأمرَ والنهيَ في الحلالِ والحرامِ كُلُّه من اللهِ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه رَأى في يَدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاتَمًا مِن وَرِقٍ -وهي الفِضَّةُ- يَومًا واحِدًا، ثُمَّ إنَّ النَّاسَ لَمَّا رأوه في يدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، اصطَنَعوا لأنفُسِهم الخَواتيمَ مِنْ فِضَّةٍ ولَبِسوها، فَرَمى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاتَمَهُ، فَرَمى النَّاسُ خَواتيمَهم. قيل: هذا وَهَمٌ مِنَ الرَّاوي؛ وَهِمَ مِنْ «خاتَمِ الذَّهَبِ» إلى «خاتَمِ الوَرِقِ»، والمَعروفُ مِنْ رِواياتِ أَنسٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اتَّخَذَ خاتَمَ فِضَّةٍ ولم يَطرَحْهُ، وإنَّما طَرَحَ خاتَمَ الذَّهَبِ.
ومنهم مَنْ جَمَعَ بيْن الرِّواياتِ فقال: لَمَّا أرادَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَحْريمَ خاتَمِ الذَّهَبِ اتَّخَذَ خاتَمَ فِضَّةٍ، فَلَمَّا لَبِسَ خاتَمَ الفِضَّةِ أَراهُ النَّاسَ في ذلك اليومِ ليُعلِمَهُم إباحَتَه، ثُمَّ طَرَحَ خاتَمَ الذَّهَبِ وأعلَمَهُم تَحْريمَه، فَطَرَحَ النَّاسُ خَواتيمَهم مِنَ الذَّهَبِ.
فيكونُ قولُه: «فَطَرَحَ النَّاسُ خَواتِمهم»، أي: خَواتِم الذَّهَبِ، وقيل: يُحتَمَلُ أنَّهُ اتَّخَذَ خاتَمَ الذَّهَبِ للزِّينةِ، فلمَّا تَتابَعَ النَّاسُ فيه وافَقَ وُقوعَ تَحريمِهِ، فَطَرَحَهُ؛ ولذلك قال: «لا ألبَسُهُ أبدًا»، وطَرَحَ النَّاسُ خَواتيمَهم تَبَعًا لَهُ، ثُمَّ احتاجَ إلى الخاتَمِ لأجلِ الخَتمِ به، فاتَّخذهُ مِنْ فِضَّةٍ ونَقَشَ فيه اسمَه الكريمَ، فَتَبِعَهُ النَّاسُ أيضًا في ذلك، فَرَمَى به حتَّى رَمَى النَّاسُ تلك الخواتيمَ المَنقوشةَ باسمِهِ؛ لِئلَّا تَفوتَ مَصلَحةُ نَقشِ اسمِهِ بوقوعِ الاشتراكِ، فَلَمَّا عَدِمَتْ خَواتيمُهم برَمْيِها رَجَعَ إلى خاتمِهِ الخاصِّ به، فصار يَختِمُ به..