مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه1426
مسند احمد
حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: " شهدته عليه الصلاة والسلام يوم دخل علينا المدينة، فلم أر يوما أضوأ منه، ولا أحسن، (2) وشهدته يوم مات، فلم أر يوما أقبح منه "
لمَّا هاجَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن مَكَّةَ إلى المَدينةِ اتَّخَذَ أبا بَكرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عنه رَفيقًا له في الهِجرةِ، وكان أهلُ المَدينةِ يَعرِفونَ أبا بَكرٍ ولا يَعرِفونَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ أبا بَكرٍ كان يُسافِرُ للتِّجارةِ.
وفي هذا الحَديثِ يَصِفُ أنَسٌ رَضِيَ اللهُ عنه كَيف كانت المَدينةُ عِندَما قدِمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكَيف أصبَحَت عِندَما توُفِّيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فيَقولُ: إنَّ أبا بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه كان رَديفَ، أي: خَلفَ، رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَينَ مَكَّةَ والمَدينةِ، أي: أثناءَ سَفرِهم مِن مَكَّةَ إلى المَدينةِ كان أبو بَكرٍ يَمشي خَلفَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان أبو بَكرٍ يَختَلفُ إلى الشَّامِ، أي: يُسافِرُ إلى الشَّامِ للتِّجارةِ، وكان يُعرَفُ، أي: لأنَّه كان يَمُرُّ على المَدينةِ في سَفَرِ التِّجارةِ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُعرَفُ؛ لأنَّه كان بعيدَ العَهدِ بالسَّفرِ مِن مَكَّةَ، فكان النَّاسُ أثناءَ سَفَرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبي بَكرٍ إلى المَدينةِ، يقولونَ: يا أبا بَكرٍ، مَن هذا الغُلامُ بَينَ يَدَيك؟ أي: الشَّابُّ الذي مَعَك، فالغُلامُ يُطلقُ على الشَّابِّ وغَيرِه، وجاءَ في رِوايةٍ: وأبو بَكرٍ شَيخٌ يُعرَفُ، ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شابٌّ لا يُعرَفُ، والمَعنى: أنَّهم عَرَفوا أبا بَكرٍ، ولم يَعرِفوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فلذلك سَألوا أبا بَكرٍ عَمَّن مَعَه، فيَقولونَ: مَن هذا الغُلامُ الذي مَعَك، ويَقصِدونَ به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقال لهم أبو بَكرٍ: هذا يَهديني السَّبيلَ، أي: يُرشِدُني ويَدُلُّني على طَريقِ الخَيرِ، هذا هو مَقصودُ أبي بَكرٍ، وفَهِم النَّاسُ مِن قَولِه أنَّه الذي يَدُلُّه على طَريقِ السَّفرِ، فلمَّا دَنَوا، أي: اقتَرَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بَكرٍ مِن المَدينةِ نَزَلا الحَرَّةَ.
وهيَ أرضٌ بظاهرِ المَدينةِ بها حِجارةٌ سودٌ كَثيرةٌ. والمَعنى: أنَّهما نَزَلا قَبلَ دُخولِ المَدينةِ عِندَ قُباءٍ، وهو المَكانُ الذي بُني فيه مَسجِدُ قُباءٍ، وبَعَثا إلى الأنصارِ، أي: أرسَلا إلى الأنصارِ أنَّهما قد قَرُبا مِن المَدينةِ، فجاءَ الأنصارَ يَستَقبلونَه فقالوا: قَومًا آمِنينَ مُطاعينَ، أي: ادخُلوا المَدينةَ؛ فأنتُم في أمانِ عِندَنا ولكُم الطَّاعةُ، يَقولُ أنَسٌ: فشَهِدتُه يَومَ دَخل المَدينةَ، أي: كُنتُ حاضِرًا وقتَ دُخولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَدينةَ، فما رَأيتُ يَومًا قَطُّ كان أحسَنَ ولا أضوَأَ مِن يَومٍ دَخَل علينا فيه، أي: أنَّ وقتَ دُخولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المَدينةِ كان مِن أحسَنِ الأيَّامِ عِندَنا، وأضاءَ فيها كُلُّ شَيءٍ، وهذا كِنايةٌ عن فرَحِ أهلِها وسُرورِهم بقُدومِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وشَهِدتُه يَومَ ماتَ، أي: كُنتُ حاضِرًا وقتَ مَوتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فما رَأيتُ يَومًا كان أقبَحَ ولا أظلمَ مِن يَومٍ ماتَ فيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: كان وقتُ مَوتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أشَدِّ الأيَّامِ عليهم وأظلَمِها، مِثلُ البَيتِ يَصيرُ مُظلِمًا إذا بَعُدَ عنه السِّراجُ أو انطَفأ، وهذا كِنايةٌ عن شِدَّةِ حُزنِ أهلِها وتَأسُّفِهم بوَفاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفي الحَديثِ مَنقَبةٌ لأبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه.
وفيه ما كان عليه أبو بَكرٍ مِن الأدَبِ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه مَشروعيَّةُ التَّوريةِ عِندَ الحاجةِ.
وفيه فرَحُ واستِبشارُ الأنصارِ بقُدومِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المَدينةِ.
وفيه بَيانُ الحُزنِ الشَّديدِ الذي أصابَ أهلَ المَدينةِ بمَوتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.