‌‌مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه1707

مسند احمد

‌‌مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه1707

حدثنا عفان، حدثنا حماد، أخبرنا ثابت، وحميد، عن أنس بن مالك، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخبر عبد الله بن سلام بقدومه وهو في نخله، فأتاه، فقال: إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي، فإن أخبرتني بها آمنت بك، وإن لم تعلمهن عرفت أنك لست بنبي، قال: فسأله عن الشبه، وعن أول (2) شيء يأكله أهل الجنة، وعن أول شيء يحشر الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخبرني بهن جبريل آنفا "، قال: ذاك عدو اليهود قال: " أما الشبه: إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة ذهب بالشبه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل ذهبت بالشبه، وأما أول شيء يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما أول شيء يحشر الناس فنار تخرج (3) من قبل المشرق، فتحشرهم إلى المغرب "، فآمن، وقال: أشهد أنك رسول الله، قال ابن سلام: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت وإنهم إن سمعوا بإسلامي بهتوني (1) ، فأخبئني عندك، وابعث إليهم فاسألهم عني، فخبأه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث إليهم فجاءوا، فقال: " أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ " قالوا: هو خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وعالمنا وابن عالمنا، فقال: " أرأيتم إن أسلم، تسلمون؟ " فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فقال: يا عبد الله بن سلام، اخرج إليهم فأخبرهم، فخرج، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، (2) وجاهلنا وابن جاهلنا، فقال ابن سلام: قد أخبرتك يا رسول الله أن اليهود قوم بهت (3)

كان عبدُ اللهِ بنُ سلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن يَهودِ المدينةِ، وذلك قبْلَ مَبْعثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان حَبْرًا عالِمًا مِن عُلماءِ اليهودِ ويَعلَمُ مِن التَّوراةِ صِفاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.

وفي هذا الحديثِ يَرْوي أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ عبْدَ اللهِ بنَ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه لَمَّا عَلِمَ بقُدومِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المدينةَ بعْدَ الهِجرةِ إليها، جاءَه؛ لِيتأكَّدَ مِن كَونِه هو النَّبيَّ المُبشَّرَ به مِن عِندِ ربِّ العالَمينَ، فقال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّه سَيَسْألُه ثَلاثةَ أسئلةٍ لا يَعلَمُها إلَّا نَبيٌّ، وهذا يدُلُّ على عَظيمِ عِلمِ عَبدِ اللهِ بنِ سَلَامٍ بالتَّوراةِ الحقيقيَّةِ قبْلَ أنْ تُحرَّفَ، حيث عَلِمَ منها أنَّ هذه الأسئلةَ لا يَعلَمُ الإجابةَ عنْها إلَّا نَبيٌّ حقٌّ، فسَأَلَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن أوَّلِ العَلاماتِ الكُبرى ليومِ القِيامةِ الدَّالَّةِ على اقترابِ وُقوعِها، وعن أوَّلِ طَعامٍ يَأكُلُه أهْلُ الجنَّةِ حِين يَدخُلونها، وما الَّذي يَجعَلُ الولدَ يُشبِهُ أباهُ؟ وما الَّذي يَجعَلُه يُشبِهُ أخوالَه؟ فأعْلَمَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ قدْ أخبَرَه بإجابةِ هذه الأسئلةِ قبْلَ ذلك، فقال له عبدُ اللهِ بنُ سلَامٍ: جِبريلُ ذاك عدُوُّ اليَهودِ مِنَ الملائكةِ؛ وهذا مِن الأشياءِ الواهيةِ التي كانوا يتَعلَّلونَ بها لعَدَمِ إيمانِهم، وزَعَموا أنَّه يَنزِلُ بالحرْبِ والقِتالِ، وهلْ كان جِبريلُ عليه السَّلامُ إلَّا مَأمورًا مِن عِندِ ربِّ العالَمينَ؟! وأجابَهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن أسئلتِه، فبَيَّن أنَّ أوَّلَ أشراطِ السَّاعةِ وعَلاماتِها الكُبرى: نارٌ تَحشُرُ النَّاسَ مِنَ المشرِقِ إلى المغرِبِ، وهذا هو الحشْرُ الأوَّلُ قبْلَ قِيامِ السَّاعةِ، تُسلَّطُ النَّارُ على النَّاسِ فَيَهرَبونَ منها، ثُمَّ يَموتونَ، ثُمَّ يُحشَرونَ إلى المحشَرِ، وقد جاءَ في صَحيحِ مسلمٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «وَآخِرُ ذلك نارٌ تَخرجُ مِنَ اليمَنِ تَطرُدُ النَّاسَ إلى مَحشَرِهم»، وفي رِوايةٍ عندَ مُسلمٍ: «نارٌ تَخرجُ مِن قَعْرِ عدَنٍ تُرَحِّلُ النَّاسَ»، وكَونُها تَخرُجُ مِن قَعْرِ عَدَنٍ لا يُنافي حَشْرَها النَّاسَ مِنَ المَشرِقِ إلى المغرِبِ؛ وذلك أنَّ ابتداءَ خُروجِها مِن قَعْرِ عَدَنٍ، فإذا خرَجَتِ انتشرَتْ في الأرضِ كلِّها، والمرادُ بقولِه: «تَحشُرُ النَّاسَ مِنَ المشرقِ إلى المغربِ» إرادةُ تَعميمِ الحَشْرِ لا خُصوصُ المشرِقِ والمغرِبِ، أو أنَّها بعْدَ الانتشارِ أوَّلَ ما تَحشُرُ تَحشُرُ أهلَ المشرِقِ. ثمَّ أخْبَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ أوَّلَ طَعامٍ يَأكُلُه أهلُ الجنَّةِ بعْدَ دُخولِها: هو زِيادةُ كَبِدِ الحُوتِ، وهي القِطعةُ المنفرِدةُ المتعلِّقةُ بالكَبدِ، وهي أطيَبُها وأهنأُ الأطعمةِ. وأمَّا الشَّبَهُ في الوَلدِ فأخْبَرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الرَّجلَ إذا جامَعَ المرأةَ، فسَبَقَها ماؤُه؛ كان الشَّبَهُ له، وإذا سَبَقَ ماؤُها كان الشَّبهُ لها ولأخوالِه؛ وذلك أنَّ لكلٍّ مِن الرَّجلِ والمرأةِ ماءً مُختلفًا في الصِّفاتِ والخصائصِ، فإذا سَبَقَ أحدُهما غَلَبَت صِفاتُه وخَصائصُه، فجاء منه الشَّبهُ، فلمَّا سَمِعَ ذلك عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه، شَهِدَ بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَسولُ اللهِ حقًّا، ونَبيُّ اللهِ صِدقًا. ثُمَّ قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ اليهودَ قَومٌ بُهتٌ، كذَّابونَ مُمارونَ لا يَرجِعونَ إلى الحقِّ، إنْ عَلِموا بإسلامِه قبْلَ أنْ يَسأَلَهم عنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كَذَبوا عليه ووَصَفوه بما لَيس فيه، فلمَّا جاءتِ اليَهودُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، دخَلَ عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ رَضيَ اللهُ عنه البيتَ حتَّى لا يَرَوه، فسَأَلَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ رجُلٍ فيكم عبدُ اللهِ بنُ سلَامٍ؟ وما مَكانتُه عِندَكم مِن حيثُ العِلمُ والمنزلةُ؟ فقالوا مادِحِين: هو أعلَمُنا وابنُ أعلَمِنا، وأخْيرُنا وابنُ أخْيَرِنا! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَفرأَيْتم -أخْبروني- إنْ أسلَمَ عَبدُ اللهِ؛ فهل تُسلِمونَ؟ قالوا: أعاذَهُ اللهُ مِن ذلك، فخرَجَ عبدُ اللهِ مِنَ البيتِ إليهم، فقال: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ! وعلى الفورِ غَيَّروا كَلامَهم فيه وبدَّلوا رَأْيَهم إلى عكْسِ ما ذَكَروا! فقالوا ذامِّين: هو شَرُّنا وابنُ شرِّنا ووَقَعوا فيه بأنْ قالوا فيه ما لَيسَ مِن صِفاتِه كَذِبًا وزُورًا، ألَا قاتَلَ اللهُ اليهودَ!

 وفي الحَديثِ: مِن عَلاماتِ نُبوَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إخبارُه عَن بَعضِ الأُمورِ الغَيبيَّةِ.

 وفيه: فَضيلةٌ ومَنقَبةٌ لعبْدِ اللهِ بنِ سلَامِ رَضيَ اللهُ عنه.

وفيه: أنَّ اليهودَ أهلُ كَذِبٍ وفُجورٍ، يَقولونَ ويفتَروَن على غيرِهم ما ليسَ فيه.

.