مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه1856
مسند احمد
حدثنا عفان، حدثنا حماد، قال: أخبرنا ثابت، عن أنس، " أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه (3) من جبل التنعيم عند صلاة الفجر، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سلما، فعفا عنهم، ونزل القرآن: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} [الفتح: 24]
كانَ صُلحُ الحُدَيبيَةِ فَتحًا للمُسلِمينَ قَبلَ فَتحِ مَكَّةَ، وهذا الحَديثُ يَحكي قِصَّةَ ذلك الصُّلحِ، وفيه قولُ عَبدُ اللهِ بنُ مُغَفَّلٍ المُزَنيُّ رَضيَ اللهُ عنه: "كُنَّا مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالحُدَيبيةِ" وهي قَريةٌ تَقَعُ بالقُربِ مِن مَكةَ على بُعدِ حوالَيْ 40 كم منها، وكانَ ذلك في السَّنةِ السَّادِسةِ مِنَ الهِجرةِ "في أصْلِ الشَّجَرةِ التي قالَ اللهُ تَعالى في القُرآنِ" وهو قَولُه تَعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، وتُسَمَّى تلك البيعةُ بَيعةَ الرِّضوانِ؛ لِرِضا اللهِ عَزَّ وجَلَّ عن أصحابِها، وكانَتْ مِن نَوعِ شَجَرِ الطَّلْحِ، "وكانَ يَقَعُ مِن أغصانِ تلك الشَّجَرةِ على ظَهرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ" حيث كانَتِ الشَّجَرةُ كَثيفةَ الفُروعِ، تَتدَلَّى منها، "وسُهَيلُ بنُ عَمرٍو بَينَ يَدَيْه" واقِفٌ أمامَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتَّفِقانِ على الصُّلحِ، ويَصيغانِ بُنودَه، "فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِعلِيٍّ رَضيَ اللهُ عنه" وكانَ هو الكاتِبَ في هذا الصُّلحِ، "اكتُبْ بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ" أمَرَه بكِتابةِ البَسمَلةِ كامِلةً في رَأْسِ وَرَقةِ الصُّلحِ، "فأخَذَ سُهَيلُ بنُ عَمرٍو بيَدِه" أمسَكَ بيَدِ علِيٍّ رَضيَ اللهُ عنه حتى لا يَكتُبَها، "فقالَ: ما نَعرِفُ الرَّحمنَ الرَّحيمَ"؛ لِأنَّهما صِفَتانِ جَديدَتانِ مِن صِفاتِ اللهِ، لا تَعرِفُهما قُرَيشٌ في كِتاباتِها، بل "اكتُبْ في قَضيَّتِنا ما نَعرِفُ. قالَ: اكتُبْ: باسْمِكَ اللَّهُمَّ"، وقد كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بَدءِ الإسلامِ يَكتُبُ ذلك، "فكَتَبَ: هذا ما صالَحَ عليه محمدٌ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أهلَ مَكةَ، فأمسَكَ سُهَيلُ بنُ عَمرٍو بيَدِه" اعتِراضًا على كِتابةِ لَفظِ (رَسولُ اللهِ) "وقالَ: لقد ظَلَمناكَ إنْ كُنتَ رَسولَه"، يعني: إنْ كَتَبتَ في صُلحِنا أنَّكَ رَسولُ اللهِ فهذا اعتِرافٌ مِنَّا بأنَّكَ رَسولٌ، ونَكونُ قد ظَلَمناكَ بتَكذيبِكَ، وقِتالِكَ، وبإخراجِكَ مِن مَكةَ، ثم صَدَدناكَ عنِ البَيتِ، بل "اكتُبْ في قَضيَّتِنا ما نَعرِفُ.
فقالَ: اكتُبْ: هذا ما صالَحَ عليه محمدُ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ، وأنا رَسولُ اللهِ" حَقًّا، سَواءٌ كَتَبَ هذه الصِّفةَ في الصُّلحِ أو لم يَكتُبْها، "فكَتَبَ" ما اتَّفَقا عليه، وأصلَحَ ما اعتَرَضَ عليه سُهَيلُ بنُ عَمرٍو، "فبَينا نحن كذلك إذْ خَرَجَ علينا ثَلاثونَ شابًّا عليهمُ السِّلاحُ، فثاروا في وُجوهِنا" يَهجُمونَ عليهم، وعِندَ مُسلِمٍ: "أنَّ ثَمانينَ رَجُلًا مِن أهلِ مَكةَ هَبَطوا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن جَبَلِ التَّنعيمِ مُتَسَلِّحينَ" وكانوا يُريدونَ غِرَّةً وغَفلةً مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيَقتُلونَه "فدَعا عليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأخَذَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بأبصارِهم" فعَمُوا ولم يَرَوْا "فقَدِمْنا إليهم فأخَذْناهم" فأسَرَهمُ المُسلِمونَ دونَ قِتالٍ، "فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هل جِئتُم في عَهدِ أحَدٍ؟" هل جَعَلَ لكم أحَدٌ مِنَ المُسلِمينَ ميثاقًا وجِوارًا "أو هل جَعَلَ لكم أحَدٌ أمانًا؟" والأمانُ هو الوَعدُ بعَدَمِ القَتلِ ممَّن له الحَقُّ في إعطاءِ هذا الوَعدِ مِنَ المُسلِمينَ "فقالوا: لا. فخَلَّى سَبيلَهم" وتَرَكَهم بَعدَما عَجَزوا عن قَتلِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أو قَتلِ أحَدٍ مِنَ المُسلِمينَ، واستَبْقاهم وتَرَكَهم أحياءً ولم يَقتُلْهم، "فأنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح: 24]، أيْ: إنَّ سَلامةُ المُسلِمينَ مِن أولئك ومُجازاتَهم بالكَفِّ عنهم بَعدَما أرادوا الغِرَّةَ والفَتكَ بهم مِنَ الأُمورِ العِظامِ، ولولا أنَّ اللهَ تَعالى ألقى في قُلوبِ المُؤمِنينَ الرَّأفةَ والرَّحمةَ بهم، وأنَّ اللهَ تَعالى قَهَرَهم وذَبَّهم عنِ المُؤمِنينَ؛ لم تَحصُلِ السَّلامةُ.
وفي الحَديثِ: أنَّ اللهَ يَنصُرُ هذا الدِّينَ بما يَظُنُّ البَعضُ أنَّه خِذلانٌ، وأنَّ مع الصَّبرِ الفَرَجَ.
وفيه: أنَّ طاعةَ اللهِ ورَسولَه واجِبةٌ دونَ النَّظَرِ إلى مَعرِفةِ الحِكمةِ مِنَ الأمْرِ أوِ النَّهيِ.
وفيه ما يَدُلُّ على أنَّه لا يُؤمَنُ جانِبُ المُشرِكينَ في وَقتِ مُعاهَدَتِهم كُلَّ الأمْنِ.