مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه285
حدثنا يزيد، أخبرنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: أخذت أم سليم بيدي مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فأتت بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، هذا ابني وهو غلام كاتب، قال: " فخدمته تسع سنين، فما قال لي لشيء قط صنعته: أسأت، أو: بئس ما صنعت "
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ طَيِّبَ الشَّمائلِ حَسَنَ العِشرةِ مع أصنافِ الناسِ، ومن ذلِك أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ضرَبَ أرْوعَ الأمثلةِ في حُسنِ معاملةِ المَوالي والخدَمِ، كما في هذا الحديثِ، حيثُ يقولُ أنسُ بنُ مالكٍ رضِيَ اللهُ عنه: "قدِمَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَدينةَ" مُهاجِرًا إليها، وكان عُمري حينَئذٍ تِسعَ سِنينَ، "فانطَلَقَتْ بي أُمِّي أُمُّ سُلَيمٍ إلى نبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، هذا ابْني، استَخْدِمْه" يكونُ في خِدمَتِكَ، ورِعايةِ شُؤونِك، فقبِلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك. قال أنسٌ: "فخدَمْتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تِسعَ سِنينَ، فما قال لي لشيءٍ فعَلْتُه: لمَ فعَلْتَ كذا وكذا، وما قال لي لشيءٍ لم أفعَلْه: ألَا فعَلْتَ كذا وكذا"، وهذا مِن عَظيمِ خُلقِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، حيثُ لمْ يَقُلْ لِشَيْءٍ صَنَعه أنسٌ لِمَ صَنَعْتَهُ؟، وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ يصْنَعْه وكان مَأْمُورًا بِه: لِمَ لمْ تَصنَعْه، بالتوبيخِ أو اللَّومِ على تَركِ الفِعلِ. ويَنبَغي العِلمُ بأنَّ تَركَ اعتِراضِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أنسٍ رضِيَ اللهُ تعالى عنه فيما خالَفَ أمرَه، إنَّما يُفرَضُ فيما يَتعلَّقُ بالخِدْمةِ لا فيما يَتعلَّقُ بالتكاليفِ الشَّرعيةِ؛ فإنَّه لا يَجوزُ تَركُ الاعتِراضِ فيه، ويُفهَمُ منه أنَّ أنَسًا لم يَرتَكِبْ أمرًا شرعيًّا يَتوجَّهُ إليه فيه مِنَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اعتراضٌ.
قال أنسٌ رضِيَ اللهُ عنه: "وأتاني ذاتَ يومٍ وأنا ألعَبُ معَ الغِلْمانِ -أو قال: معَ الصِّبيانِ-" وهم صِغارُ الأطْفالِ، "فسلَّمَ علينا" بأنْ ألْقَى تحيةَ الإسلامِ علينا ونحنُ أطْفالٌ صغارٌ، وهذا مِن حُسنِ تَواضُعِه وجميلِ تَلطُّفِه بالأطفالِ، وفيه تأديبٌ وتَعْليمٌ للأُمَّةِ في كَيفيَّةِ مُعاملةِ هؤلاءِ الصِّغارِ الذين هم أمَلُ الأُمَّةِ ورِجالُ المُستقبَلِ،"ثم دَعاني فأرْسَلَني في حاجةٍ"، أي: ناداني مِن بَينِ الأطفالِ مِن غيرِ تَعنيفٍ، فطلَبَ منِّي أنْ أذهَبَ لِأَقضيَ له حاجةً، "فلمَّا رجعْتُ قال: لا تُخبِرْ أحدًا"، فنَهاه أنْ يُخبِرَ أحدًا بما طلَبَ منه. "فاحتبَسْتُ على أُمِّي" تَأخَّرْتُ عليها، "فلمَّا أتَيْتُها قالت: يا بُنَيَّ، ما حبَسَكَ؟" ما مَنَعَكَ وجعَلَكَ تتأخَّرُ؟ "قلْتُ: أرْسَلَني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حاجةٍ له، قالت: وما هي؟" ما الحاجةُ الَّتي أرسلَكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِتَقْضِيَها له؟ "قلْتُ: إنَّه قال: لا تُخبِرَنَّ بها أحدًا"، فصارتْ هذه الحاجةُ خاصَّةً وسرًّا لا يَنبَغي لي أنْ أُعلِنَها، ولا أُعلِمَ بها أحدًا؛ قيل: كأنَّ هذا السِّرَّ كان يَختصُّ بنِساءِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولم يكُنْ مِن العِلمِ الذي لا يَسعُ أنسًا كِتمانُه، "قالت: أيْ بُنَيَّ، فاكْتُمْ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سِرَّه"، فلا تُخبِرْ أحدًا بشيءٍ استَأمنَكَ عليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا مِن عَظيمِ استِجابةِ أنسٍ وأُمَّه رضِيَ اللهُ عنهما لأمْرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وحِفظِ عَهدِه وسِرِّه، وعَظيمِ لُطفِهما وصِدقِ أمانتِهما ووفائِهما، وهو ما يَنبغي على المسلِمِ مع أخيه المُسلمِ، خُصوصًا إذا كان خادمًا أو عاملًا عِندَه.
وفي الحديثِ: فَضلٌ ومَنقَبةٌ لأنسِ بنِ مالِكٍ وأُمِّه أُمِّ سُلَيمٍ رضِيَ اللهُ عنهما، وبيانُ حُسنِ تَربيتِها له.
وفيه: بيانُ كَيفيَّةِ مُعامَلةِ الخادِمِ، وبعضِ الآدابِ التي على الخادمِ أنْ يَلتزِمَها، ومِن أهمِّها حِفظُ أسرارِ سيِّدِه وكِتمانُها.
وفيه: أنَّ على الأُمِّ أنْ تُربيَ أبناءَها على التَّحَلِّي بمَكارِمِ الأخْلاقِ، ومنها حِفظُ السرِّ.