مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه317
مسند احمد
حدثنا حجاج، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة، يحدث، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال ربكم إذا تقرب العبد مني شبرا، تقربت منه ذراعا، وإذا تقرب مني ذراعا، تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة
اللهُ عَزَّ وجَلَّ واسِعُ الرَّحمةِ، جَزيلُ العَطاءِ، ومُعاملتُه لعِبادِه دائرةٌ بيْنَ العَدلِ والفَضلِ، ومِن لُطفِ اللهِ تَعالَى بأُمَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه ضاعَفَ لها حَسناتِها ولم يُضاعِفْ سيِّئاتِها.
وفي هذا الحديثِ القُدسيِّ يُخبِرُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن رَبِّ العِزَّةِ أنَّ مَن عَمِلَ وأتى بحَسَنةٍ، ويَدخُلُ تحْتَها كلُّ أعمالِ البِرِّ والطَّاعاتِ، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُثِيبُه عليها ويُضاعِفُها له بعَشْرِ حَسَناتٍ، وتلكَ أقلُّ المضاعَفةِ بمُقْتضى الوعدِ، ولذا قال: «وأزيد» على ذلكَ لمَن أشاء بمُقْتضى فَضْلي وكَرَمي إلى سَبعِ مائةٍ وإلى أضعافٍ كَثيرةٍ لا يَعلَمُها إلَّا اللهُ، وهذا مِن فَضلِ اللهِ وكَرمِه على عِبادِه، وأخبَرَ سُبحانه أنْ أتى وفَعَلَ سَيِّئةً، ويَدخُلُ تحْتَها كلُّ أعمالِ المنكَرِ والمَعاصي، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَكتُبُها عِنده سيِّئةً واحدةً لا يَزيدُها ولا يُضاعِفُها، وهذا لِمَن لم يَتُبْ عن سَيِّئتِه أو يَغفِرْها اللهُ له، فإنْ تابَ عنها فإنَّ اللهَ سُبحانه يَمْحوها ويَعْفو عنها، كما بَيَّنَه في قولِه تَعالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
ثمَّ قال عزَّ وجلَّ: «ومَن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تقَرَّبْتُ منه ذِراعًا، ومَن تَقَرَّبَ مِنِّي ذِراعًا تَقرَّبْتُ منه باعًا، ومَن أتَانِي يَمْشي أتَيْتُه هَرْوَلةً»، أي: إنَّ إقبالَ اللهِ على العَبدِ إذا أقْبَلَ العَبدُ عليه سُبحانَه وتَعالَى يكونُ أكثَرَ مِن إقبالِ العَبدِ عليه، ومُتوسِّطُ طُولِ الذِّارعِ في المَقاييسِ الحَديثةِ 52 أو 75 سَنْتيمترًا، ومَعنى «الباعِ»: طُولُ ذِراعَي الإنسانِ وعَضُديْه. والهَرْولةُ في اللُّغةِ: الإسراعُ في المشْيِ دونَ العَدْوِ، وصِفةُ الهَرولةِ للهِ عزَّ وجلَّ كَما تَليقُ بِه، ولا تُشابِهُ هَرْولةَ المخلوقِينَ، كما قال تَعالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. وفي هذه الجُمَلِ الثَّلاثِ بَيانُ فَضْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّه يُعطي أكثَرَ ممَّا فُعِلَ مِن أجلِهِ، فيُعْطي العامِلَ أكثَرَ مِمَّا عَمِلَ.
وقال عزَّ وجلَّ: «وَمن لَقِيَني بقُرابِ الأرضِ» أي: مِلؤُها، فلوْ جاءَ الإنسانُ إلى ربِّه وعليه مِن الذُّنوبِ ما تَمتلِئُ به الأرضُ، وهو لا يُشرِكُ باللهِ شيئًا، «لَقيتُه بِمثلِها مَغفرةً»، أي: لَقِيتُه بمِثلِ مِلءِ الأرضِ مَغفِرةً بمُقْتضى فَضْلي وكَرَمي، ما دام تائبًا عَنها، مُستغفِرًا مِنها، أمَّا إِذا لم يَتُبْ منَ الذُّنوبِ مَع تَحقيقِ التَّوحيدِ، فهُو تحْتَ المشيئَةِ لقَولِه تَعالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116].
والمقصودُ مِن الحديثِ: دَفْعُ اليأسِ لمَن كَثُرَت ذُنوبُه؛ كيْ يَتوبَ ويَعودَ إلى اللهِ، فلا يَنْبغي للعبدِ أنْ يَغتَرَّ ويَستكثِرَ مِن الخَطايا، فإنَّه يَغفِرُ لِمَن يَشاءُ، ويُعذِّبُ مَن يَشاءُ، ولا يَعلَمُ مِن أيِّهم يكونُ، فعليْه أنْ يُؤدِّبَ نفْسَه بالخوفِ تارةً، وبالرَّجاءِ تارةً أُخرى؛ كي يكونَ مِن الفائزينَ.
وفي الحديثِ: التَّرغيبُ والحثُّ على المجاهَدةِ في الطَّاعةِ والعِبادةِ.
وفيه: فَضيلةُ التَّوحيدِ وأنَّه سَببُ نَجاةِ العبدِ.