مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه417
مسند احمد
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن ثابت البناني، عن أنس قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها، فقال: حتى أستأمر أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فنعم إذا " قال: فانطلق الرجل إلى امرأته فذكر ذلك لها، فقالت: لاها الله إذا، ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيبا وقد منعناها من فلان وفلان؟ قال: والجارية في سترها تستمع. قال: فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ إن كان قد رضيه لكم، فأنكحوه قال: فكأنها جلت عن أبويها، وقالا: صدقت. فذهب أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت قد رضيته فقد رضيناه. قال: " فإني قد رضيته ". فزوجها، ثم فزع أهل المدينة، فركب جليبيب فوجدوه قد قتل، وحوله ناس من المشركين قد قتلهم، قال أنس: " فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق ثيب (1) في المدينة " (2)
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتفقَّدُ أصحابَه ويقومُ بزِيارتِهم، ويَسأَلُ عنهم، حتَّى في الغزواتِ والمعارِكِ؛ ليَعرِفَ أحْوالَهم وما يَستجِدُّ لهم في حَياتِهم، فيُرشِدُهم ويُعلِّمُهم، ويَدْعو لهم، ويُشرِّعَ ما يَرى أنَّه يَحتاجُ لتَشريعٍ.
وفي هذا الحديثِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان في مَغْزًى له، أي: في إحْدى غَزَواتِه، فَأفاءَ اللهُ عليه، والفَيْءُ عندَ الإطلاقِ هو كلُّ ما غَنِمَه المسْلِمون مِن الكفَّارِ بقِتالٍ أو غيرِه، وعندَ التَّخصيصِ هو ما أُخِذَ مِنَ الكُفَّارِ على سَبيلِ الغَلَبةِ بِلا قتالٍ ولا إسراعِ خَيْلٍ أو رِكابٍ أو نحوِهما، مِن جِزيةٍ، أو ما هَربُوا عنه لِخوفٍ أو غيرِه، أو صُولِحُوا عليه بِلا قتالٍ، وسُمِّيَ فَيْئًا لِرجوعِه مِنَ الكفَّارِ إلى المُسلمينَ، فَسألَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصحابَهُ: هل تَفقِدُون أَحَدًا؟ يُريدُ مَن قُتِل مِن المسْلِمين في المعركةِ، فسَمَّى له الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم بعْضَ أسماءِ مَن قُتِلَ منهم، ثُمَّ أعادَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليهمُ السُّؤالَ مرَّةً أُخرى فَأجابوا: نعم؛ فُلانًا وفلانًا وفلانًا، إمَّا هؤلاء تَكرارٌ للمَذكورينَ سابقًا، أو غيرُهم، ثُمَّ أعادَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ السُّؤالَ مَرَّةً ثالثَةً، فَأجابُوه: لا نَفقِدُ سِوى مَن ذَكَرْنَا، وهذا السُّؤالُ مِنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إنَّمَا مَقصودُه التَّنويهُ والتَّفْخيمُ بِمَنْ لم يَذكُروه ولا الْتَفَتُوا إليه؛ لِكونِه كان غامضًا في النَّاسِ، ولِكَونِ كلِّ واحدٍ منهم أُصِيبَ بِقَريبِهِ أوْ حَبِيبِه، فَقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لَكِنَّي أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا، أي: إنَّ فَقْدَه أَعظمُ مِن فَقْدِ كلِّ مَن فُقِدَ، والمصابُ به أشدُّ؛ فَاطلُبوه وابْحَثوا عنه، فَطُلِبَ في القَتْلى مِن الفريقينِ؛ فَوَجدُوه ميِّتًا إلى جَنْبِ سَبعةٍ مِن الكفَّارِ قدْ قَتَلَهُم جُلَيْبِيبٌ، ثُمَّ بعْدَ قَتلِه السَّبعةَ قَتَلَه مَن بَقِي مِن الكفَّارِ، فأخْبَروا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ به، فجاء النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَوقَفَ أمامَ جُثَّتِه، وأخبَرَهم أنَّه «قَتلَ سَبعةً، ثُمَّ قَتلُوه»، ثمَّ قال: «هذا مِنِّي وأنا منه»، وهذا معناهُ المبالَغةُ في اتِّحادِ طَريقَتَيهِمَا، واتِّفاقُهما في طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّه مِن أهلِ طَريقةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسُنَّتِه في مُعاداةِ أعداءِ اللهِ تَعالَى، وكَرَّر النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَقولتَه بَيانًا لفَضلِ جُلَيْبيبٍ رَضيَ اللهُ عنه، وما أعظَمَ هذه الفضيلةَ الَّتي حَصَلَت لجُلَيْبيبٍ رَضيَ اللهُ عنه مع كَونِه غيرَ مَشهورٍ عِندهم!
ثُمَّ أَقبَلَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِإكرامِه عليه، وجَعَله النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على «سَاعِدَيْه» جمْعُ ساعدٍ، وهو ما بيْنَ مَرفِقِ اليدِ إلى الكَفِّ، فحَمَله رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيَدَيه؛ مُبالغةً في كَرامَتِه؛ وَلِتنالَهُ بركةُ مُلامسَتِه، فَحُفِرَ له في الأرضِ مَوضعُ دَفنِه ووُضِعَ في قَبرِه.
ولم يَذكُرْ أبو بَرْزةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غَسَّله أو أمَرَ بتَغسيلِه، والأصلُ أنَّ الشَّهيدَ لا يُغسَّلُ ولا يُصلَّى عليه؛ لِما وَرَد عندَ النَّسائيِّ عن عبدِ اللهِ بنِ ثَعْلبةَ رَضيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِقَتلى أُحدٍ: «زَمِّلوهم بدِمائهِم»، ولِما أخرَجَه البُخاريُّ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما: «أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمَرَ في قَتْلى أُحُدٍ بدَفنِهم بدِمائهِم، ولم يُصلِّ عليهم، ولم يُغَسَّلوا».
وفي الحديثِ: فَضلُ جُلَيْبِيبٍ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه: أنَّ مِن هَديِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ألَّا يُغَسِّلَ الشَّهيدَ.
وفيه: بَيانُ فَضلِ الشَّهادةِ في سَبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
وفيه: ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن التَّواضُعِ، وكَريمِ الأخلاقِ، وتَفقُّدِ أصحابِه، والتَّنويهِ بأقدارِهِم.