مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه81
حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس قال: " لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر خرج فاستشار الناس، فأشار عليه أبو بكر، ثم استشارهم، فأشار عليه عمر، فسكت "، فقال رجل من الأنصار: إنما يريدكم فقالوا: يا رسول الله، والله لا نكون كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} ، ولكن والله لو ضربت أكبادها (1) حتى تبلغ برك الغماد لكنا معك (2)
مدَحَ اللهُ الصَّحابةَ الكرامَ رَضيَ اللهُ عنهم؛ لأنَّهم آزَروا ونَصَروا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكانوا أشِدَّاءَ على الكفَّارِ.
وفي هذا الحَديثِ بَيانٌ لمَوقِفٍ مِن شَجاعَتِهم، وصِدقِ إيمانِهم، وحُبِّهم للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أنَّه شهِدَ مِن المِقْدادِ بنِ الأسْوَدِ رَضيَ اللهُ عنه مَشهَدًا ومَوقفًا، تَمنَّى أنْ لو كان هو صاحِبَ هذا المَشهَدِ وقائلَ تلك المَقالةِ الَّتي قالَها، وأنَّها مَقولةٌ أحَبُّ إليه ممَّا عُدِلَ به، أي: ممَّا وُزِنَ به مِن شَيءٍ يُقابِلُه مِن مُتَعِ الدُّنْيا، أوِ الثَّوابِ الَّذي عُدِلَ ذلك المَشهَدُ به؛ وسَببُ ذلك أنَّه استَشَفَّ مِن تلك الكَلِماتِ أنَّها بلَغَتْ مِن رِضا اللهِ عزَّ وجلَّ، ورِضا رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في تلك السَّاعةِ، وفي ذلك المَقامِ؛ مَبلَغًا لا يَعدِلُه ما يَنالُه عِلمُ البَشَرِ مِن الأمانيِّ؛ وذلك أنَّه قال قَولًا تَعلَّقَت به قُلوبُ المؤمِنينَ، فقدْ أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ بَدرٍ وهو يَدْعو على المُشرِكينَ، فقال المِقْدادُ رَضيَ اللهُ عنه لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لا نَقولُ كما قال قَومُ نَبيِّ اللهِ موسى عليه السَّلامُ: اذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقَاتِلَا، كما سجَّل القُرآنُ عليهم: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، قالوا ذلك اسْتِهانةً باللهِ ورَسولِه، وعَدمَ مُبالاةٍ بهما، وتَقْديرُه: امْضِ يا موسى أنتَ وربُّك لقِتالِهم، أمَّا نحنُ فماكِثونَ في هذا المكانِ، ولنْ نَبرحَه معكَ للمضيِّ إليهم.
قال المِقْدادُ رَضيَ اللهُ عنه: ولكنَّا نُقاتِلُ عَدوَّكَ عن يَمينِكَ، وعن شِمالِكَ، وبيْنَ يَديْكَ، وخَلفَكَ، أي: نُحيطُ بكَ، ونَحْميكَ مِن العَدوِّ مِن كلِّ الجِهاتِ، وهذا القَولُ يدُلُّ على صِدقِ المِقْدادِ، وصِدقِ الصَّحابةِ في إيمانِهم، وجِهادِهم في سَبيلِ اللهِ.
فذكَرَ حالَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لمَّا سَمِع تلك الكَلِماتِ مِن المِقْدادِ، فقال: «فرَأيْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أشرَقَ وَجْهُه»، أيِ: اسْتَنارَ، وسَرَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَولُ المِقْدادِ رَضيَ اللهُ تعالَى عنه.
وفي الحَديثِ: ما يدُلُّ على فَضلِ المِقْدادِ بنِ الأسْوَدِ رَضيَ اللهُ عنه.