مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه854
حدثنا يحيى، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت أنس بن مالك يحدث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب كتابا (2) لناس من الأنصار إلى البحرين، فقالوا: لا، إلا أن تكتب لإخواننا من المهاجرين مثلها، فدعاهم فأبوا، قال: " أما إنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني "
نَهانا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنِ التَّنافُسِ في الدُّنْيا، وأرشَدَنا إلى أنَّ الآخِرةَ هي مَحلُّ التَّنافُسِ والتَّسابُقِ؛ فهي دارُ القَرارِ والحَقيقةِ، وما الدُّنْيا إلَّا مَتاعُ الغُرورِ، فالواجِبُ على المُسلمِ أنْ يَصبِرَ على ما حُرِمَ منه في الدُّنْيا؛ رَجاءَ ثَوابِ الآخِرةِ والنَّعيمِ المُقيمِ فيها.
وفي هذا الحَديثِ ان جاء رَجلٌ مِن الأنْصارِ -وهم أهلُ المَدينةِ- إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وطلَبَ منه أنْ يَستَعمِلَه في وَظيفةٍ، أو وِلايةٍ، كما استَعمَلَ غَيرَه، فقال له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «سَتَلقَوْنَ بَعْدي أثرَةً، فاصْبِروا حتَّى تَلقَوْني على الحَوضِ»، أي: ستَجِدونَ بَعْدي مَن يُفضِّلُ عليكمْ غَيرَكم في الأمْوالِ وغَيرِها، فيُعْطيهم ما لا يُعْطيكم، ويَستَعمِلُهم في الوَظائفِ والوِلاياتِ ما لا يَستَعمِلُكم؛ فاصْبِروا على ما تَلقَوْنَه في الدُّنْيا حتَّى تَلقَوْني على الحَوضِ يومَ القيامةِ سالِمينَ مِن التَّنافُسِ والتَّباغُضِ على حُطامِ الدُّنْيا، فعندَها تُوَفَّوْنَ أُجورَكم مِن اللهِ تعالَى، وحَوضُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَجمَعُ ماءٍ عَظيمٌ يَرِدُه المُؤمِنونَ في عَرَصاتِ القيامةِ.
وهذا منِ استِعْمالِ الحِكْمةِ في الأُمورِ الَّتي قد تَقْتَضي الإثارةَ؛ فإنَّه لا شكَّ أنَّ اسْتِئثارَ الوُلاةِ بالمالِ دونَ الرَّعيَّةِ يُوجِبُ أنْ تَثورَ الرَّعيَّةُ، وتُطالِبَ بحقِّها، خاصَّةً لمَن كان همْ سَببًا في هذا المالِ وتلك المَناصِبِ، ولكنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمَر بالصَّبرِ على هذا، وأنْ نَقومَ بما يجِبُ علينا، ونَسْألَ اللهَ الَّذي لنا.
وإنَّما وَجهُ المُناسَبةِ بيْن الجَوابِ والسُّؤالِ أنَّ مِن شَأنِ العامِلِ الاسْتِئْثارَ، إلَّا مَن عصَم اللهُ، فأشفَقَ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أنْ يقَعَ فيما يقَعُ فيه بعضُ مَن يَأْتي بعْدَه مِن المُلوكِ، فيَسْتأثِرَ على ذَوي الحُقوقِ، وقيلَ: إنَّما السِّرُّ في جَوابِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن طلَبِ الوِلايةِ بقَولِه: «ستَرَوْنَ بَعدي أثَرةً»، إرادةُ نَفيِ ظَنِّه أنَّه آثَرَ الَّذي وَلَّاه عليه، فبيَّنَ له أنَّ ذلك لا يقَعُ في زَمانِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنَّه لم يَخُصَّه بذلك لذاتِه؛ بلْ لعُمومِ مَصلَحةِ المُسلِمينَ، وأنَّ الاسْتِئْثارَ للحَظِّ الدُّنيَويِّ إنَّما يقَعُ بعْدَه، وأمَرَهم عندَ وُقوعِ ذلك بالصَّبرِ.
وفي الحَديثِ: بَيانُ الأمرِ بالصَّبرِ عندَ ظُلمِ الوُلاةِ، واسْتِئْثارِهم.
وفيه: عَلامةٌ مِن عَلاماتِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: بَيانُ مَنقَبةِ الأنْصارِ، حيث أمَرَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالصَّبرِ، ووعَدَهم أنْ يَرِدوا عليه الحَوضَ.