مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه 744
مسند احمد
حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت جابرا، يقول: كان معاذ يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرجع، فيؤم قومه، قال: فصلى بهم مرة العشاء، فقرأ سورة البقرة، فعمد رجل، فانصرف، فكان معاذ ينال منه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «فتان فتان» - أو قال: «فاتن فاتن فاتن» -، وأمره بسورتين من أوسط المفصل، قال عمرو: «لا أحفظهما»
كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يُخَيَّرُ بيْن أمْرَينِ إلَّا اختارَ أيسرَهما ما لم يَكُنْ فيه معصيةٌ؛ تخْفيفًا وتيْسيرًا على أُمَّتِه؛ ولذلك أمَرَ الأئمَّةَ بالتَّخفيفِ في الصَّلاةِ
وفي هذا الحديثِ يقولُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنْهما: "أَقْبلَ رجُلٌ مِن الأنصارِ ومعه ناضِحانِ له" وهما جَمَلانِ يَنقُلُ عليْهما الماءَ مِن مَنابعِه إلى النَّاسِ في مَزارعِهم أو بُيوتِهم، "وقد جَنَحَت الشَّمسُ"، أي: مالَتْ للْغُروبِ ودخَلَ وقْتُ صلاةِ المغْربِ، ومُعاذُ بنُ جبَلٍ رضِيَ اللهُ عنه "يُصلِّي المغْربَ" حيثُ كان يُصلِّي مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ المغْربَ، ثُمَّ يذْهبُ ليُصلِّيَ في مَسْجدِ قوْمِه مِن بَنِي سَلِمةَ، وهُمْ بطْنٌ مِن الخَزرجِ، "فدَخلَ" الرَّجُلُ "معه الصَّلاةَ، فاستَفْتَحَ مُعاذٌ البَقَرةَ، أو النِّساءَ"، والشَّكُّ مِن مُحارِبِ بْنِ دِثارٍ -أَحدِ رُواةِ هذا الحديثِ-، "فلمَّا رأى الرَّجُلُ ذلك" مِن تطْويلِ مُعاذٍ في القراءةِ انفَرَدَ عن الجَماعةِ، و"صلَّى" مُنْفرِدًا، "ثُمَّ خَرَجَ" مِن المسجدِ بعْدَ أدائِهِ الصَّلاةَ وَحْدَه. قال جابرٌ رَضِيَ اللهُ عنْه: فبَلَغَ الرَّجُلَ "أنَّ مُعاذًا نالَ منه -قال حَجَّاجٌ: يَنالُ منه-"، أي: تَكلَّمَ مُعاذٌ عن هذا الرَّجُلِ بسُوءٍ؛ لفِعْلِه وخُروجِه مِن صَلاةِ الجَماعةِ. وفي رِوايةِ الصَّحيحَيْنِ، قال مُعاذٌ عن الرَّجُلِ: "إنَّه مُنافقٌ"، فلمَّا بَلَغَ الرَّجُلَ ما قاله مُعاذٌ؛ ذهَبَ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فذَكرَ ذلك له؛ لِيَرُدَّ له حقَّه مِن مُعاذٍ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ لِمُعاذٍ: "أَفَتَّانٌ أنتَ يا مُعاذُ، أَفَتَّانٌ أنتَ يا مُعاذُ؟! -أو فاتِنٌ، فاتِنٌ، فاتِنٌ؟! وقال حَجَّاجُ بنُ محمَّدٍ المِصِّيصِيُّ مِن رُواةِ الحديثِ: أَفاتِنٌ، أَفاتِنٌ، أَفاتِنٌ؟!-" والمعنى: أمُنَفِّرٌ عَن الجَماعةِ بتطْويلِ القِراءةِ في صلاةِ الجَماعةِ أنتَ يا مُعاذُ؟!ثُمَّ أرْشَدَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ فقال: "فلوْلا قَرأْت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} وهي سُوَرٌ قَصيرةٌ وخَفيفةٌ على النَّاسِ، فإذا فَعلْتَ ذلك "صلَّى وَراءَك الكَبيرُ"، وهو كَبيرُ السِّنِّ الذي لا يسْتطيعُ التطْويلَ في الوُقوفِ، "وذُو الحاجةِ" الذي تَشْغلُه حاجَتُه وتُشَوِّشُ عليْه تفْكيرَه في الصَّلاةِ وخاصَّةً إذا طالَتْ، "أو الضَّعيفُ" الذي لا يَقْدِرُ على الوُقوفِ والتَّعبِ في الصَّلاةِ، قال الرَّاوي: "أحْسِبُ مَحارِبًا وهو ابنُ دِثارٍ السَّدُوسيُّ- الذي يَشُكُّ في الضَّعيفِ"، أي: يَشُكُّ هل قال لفْظَ "الضَّعيفُ" أو مَعْناه، وهذا مِن ضَبْطِ الرِّوايةِ والعِنايَةِ بها. وفي تَطْويلِ صلاةِ الجَماعةِ تَشْديدٌ على النَّاسِ، وإخْراجٌ لهم عن الخُشوعِ؛ لِانْشِغالِهم بحاجتِهم، أو ضَعْفِهم عن تَحمُّلِ التَّطْويلِ
وفي الحَديثِ: مُراعاةُ الشَّرْعِ لِأحْوالِ النَّاسِ وطاقاتِهم في العِباداتِ، وبَيانُ أنَّه دِينُ يُسرٍ لا عُسرٍ
وفيه: أنَّه يَنْبَغي التَّروِّي قبْلَ إطْلاقِ الأحْكامِ، وعدَمُ الحُكْمِ على السَّرائِرِ
وفيه: تقْويمُ الإمامِ والحاكِمِ لِمَا يَراه مِن مصْلحةِ العامَّةِ