مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه 802
مسند احمد
الزَّواجُ فِطرةٌ وسُنَّةٌ مِن سُنَنِ اللهِ تعالَى الكونيَّةِ، وله مَصالحُ شَرعيَّةٌ كَثيرةٌ، وقدِ اهتمَّ شَرعُنا الحَنيفُ بتلك الفِطرةِ، وحَثَّ عليها، ورغَّبَ فيها، ودلَّنا على كَيفيَّةِ الاخْتيارِ، وأسْبابِ الحِفاظِ على تلك النِّعمةِ الجَليلةِ بحُسْنِ الخُلقِ، وطِيبِ العِشرةِ بيْنَ الرَّجلِ وأهْلِه
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّهم كانوا معَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في غَزوةٍ خارجَ المدينةِ، قيلَ: كان ذلك في فَتحِ مكَّةَ، وإنَّهم كانوا راجِعينَ منها إلى المدينةِ، وفي طَريقِ عَودَتِهم إلى المدينةِ كان جابرٌ رَضيَ اللهُ عنه مُستَعجِلًا، وأسرَعَ السَّيْرَ على جَمَلٍ له، وكان الجمَلُ قَطُوفًا، أي: بَطيءَ المَشيِ معَ تَقارُبِ الخَطوِ، فلَحِقَه أحدٌ من خَلفِه، فنخَسَ بَعيرَه، أي: طعَنَ الجمَلَ وضرَبَه في مُؤخِّرتِهِ لِيُسرِعَ مِن سَيْرِهِ، «بِعَنَزةٍ كانت معَه»، والعَنَزةُ هي عصًا قَصيرةٌ تُشبِهُ الرُّمحَ، في آخِرِها حَديدةٌ عَريضةٌ، فأسرَعَ الجمَلُ في السَّيْرِ، واشتَدَّ في الحركةِ، «كأَجْوَدِ ما أنتَ رَاءٍ مِنَ الإبلِ»، أي: كأفضَلِ وأسرَعِ ما تَرى مِنَ الجِمالِ. فالتفَتَ جابرٌ وأدارَ رأسَه لِينظُرَ مَنِ الَّذي طعَنَ جَملَه فأسرَعَ سَيْرَهُ، فوجَدَهُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فسأَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن سَبَبِ استِعجالِه وإسْراعِه في السَّيْرِ، فأجابَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه «حديثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ»، أي: قد تزوَّجَ منذُ زمنٍ قريبٍ، فسأَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هل تزوَّجْتَ بِكْرًا، وهي الَّتي لم تَتزوَّجْ مِن قَبلُ، أمْ ثَيِّبًا -وهي الَّتي سَبَقَ لها الزَّواجُ-؟ فأخبَرَه جابرٌ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه تزوَّجَ امرأةً قدْ تزوَّجَتْ مِن قبلُ، وليستْ بِكرًا، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «هلَّا جاريةً»، والمرادُ بها البِكرُ، يُرغِّبُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في زَواجِ الأبْكارِ، «تُلاعِبُها وتُلاعِبُكَ»، أي: تَلعَبُ معَها، وتَلعَبُ معَكَ، وتُلاطِفُها وتُلاطِفكَ؛ فإنَّ الثَّيِّبَ قدْ تكونُ مُتعلِّقةَ القَلْبِ بزَوجِها الأوَّلِ، بخِلافِ الصَّغيرةِ الَّتي لم يَسبِقْ لها الزَّواجُ؛ فإنَّ قَلْبَها غالبًا ما يَتعلَّقُ بأوَّلِ زَوْجٍ لها، فتَنشَطُ له وتَسْعى في سَعادتِه، وغيرُ ذلك مِنَ المواصَفاتِ الَّتي تُعرَفُ بها البِكْرُ، وتَتَقدَّمُ بها على الثَّيِّبِ، وفي الصَّحيحَينِ: «قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، تُوفِّيَ والِدي أوِ استُشهِدَ ولي أخَواتٌ صغارٌ، فكرِهْتُ أنْ أتزوَّجَ مثلَهنَّ، فلا تؤدِّبُهنَّ، ولا تَقومُ عليهنَّ، فتزوَّجْتُ ثَيِّبًا لتَقومَ عليهنَّ وتؤدِّبَهنَّ». وزادَ في مُسلمٍ: «فبارَكَ اللهُ لكَ أو قال لي خَيرًا»
ثُمَّ أخبَرَ جابرٌ رَضيَ اللهُ عنه أنَّهم لمَّا رجَعوا إلى المدينةِ، همُّوا وأسْرَعوا ليَدخُلوا على أهْليهم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أَمْهِلُوا»، أي: اصْبِروا وانتَظِروا، ولا تَدخُلوا الآنَ على أهْليكم، «حتَّى ندخُلَ ليلًا، أي عِشاءً»، أي: بَعدَ صلاةِ العِشاءِ؛ وعلَّلَ ذلك التَّأخيرَ فقال: «كَيْ تَمتَشِطَ»، أي: لكيْ تُهذِّبَ شَعرَ رأسِها وتُجمِّلَه، «الشَّعِثةُ»، أي: الَّتي تَفرَّقَ شَعرُ رأسِها، فأصبَحَ قَبيحَ الهيئةِ، «وتَستَحِدَّ المُغِيبةُ»، فتَستخدِمَ المُوسَى الحديدَ لإزالةِ شَعرِ العانَةِ، والمُغِيبةُ: هي الَّتي غابَ عنها زوجُها، والمقصودُ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منَعَهم أنْ يُسرِعوا الدُّخولَ على أهْليهم، وأمَرَهم أنْ يَنتَظِروا إلى اللَّيلِ؛ لكيْ يُعْطوا النِّساءَ فُرصةً لكيْ يَتَجَهَّزْنَ لهم، ويُصْلِحْنَ مِن هَيئتهِنَّ وشُعورهِنَّ، وَيَتَجَمَّلْنَ لهم، ويَستَعدِدْنَ لاستِقبالِهم، ثُمَّ أوْصى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جابرًا رَضيَ اللهُ عنه فقال له: «إذا قَدِمْتَ»، أي: إذا دخلْتَ على أهلِكَ، «فالْكَيْسَ الْكَيْسَ»، قيلَ: يَعني الجِماعَ، كأنَّه يَحُثُّهُ على الجِماعِ، وقيلَ: بلْ أرادَ ما هو أَخَصُّ مِن ذلك، وهو الوَلَدُ، فكأنَّه يُرغِّبُهُ في ابتغاءِ الولدِ، وقيلَ: هو العقلُ والحِلْمُ، كأنَّه يقولُ له: عليكَ بالعقلِ والحِلْمِ إذا دخَلْتَ على أهلِكَ، فراعِ حالَهم مِن حيثُ الطُّهرُ والحَيضُ
وفي الحَديثِ: حُسنُ عِشرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأصْحابِه، واهْتمامُه بشُؤونِهم، وسُؤالُه عليهم
وفيه: فَضلُ نِكاحِ البِكرِ
وفيه: فَضلُ جابرٍ رَضيَ اللهُ عنه، حيثُ خرَجَ للجهادِ وهو حديثُ عهدٍ بعُرسٍ
وفيه: بيانُ بعضِ آدابِ العائدِ مِنَ الغَزْوِ والسَّفَرِ