مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم 137
حدثنا يحيى، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة، وابن عباس: " أن أبا بكر، قبل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ميت "
كانت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حدثا جللا في تاريخ الإسلام؛ فقد انقطع الوحي المباشر من السماء، وفجع المسلمون فجعة لا مثيل لها، ولكن قيض الله أبا بكر لهذا الموقف، فجمع الله به كلمة المسلمين ووحدها بعد النبي صلى الله عليه وسلم
وفي هذا الحديث تروي عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات كان أبو بكر رضي الله عنه غائبا عند زوجته بنت خارجة الأنصاري بالسنح، يعني: بالعالية، وهي منازل بني الحارث في المدينة، وفي رواية: أن عائشة رضي الله عنها أخبرت أن بصر النبي صلى الله عليه وسلم قد شخص وارتفع نحو السماء، عند وفاته حين خير، ثم قال: «في الرفيق الأعلى»، أي: في الملأ الأعلى، قالها ثلاثا، والرفيق الأعلى هم {الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}، وقيل: هو الجنة، وقيل: جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين
وعند انتشار خبر موت النبي صلى الله عليه وسلم قام عمر رضي الله عنه يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يحلف رضي الله عنه: «والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك»، أي: عدم موته صلى الله عليه وسلم، وليبعثنه الله عز وجل في الدنيا، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم قائلين بموته صلى الله عليه وسلم، فلما دخل أبو بكر رضي الله عنه، كشف عن وجهه صلى الله عليه وسلم الغطاء، فتأكد أنه مات، فقبله بين عينيه -كما في رواية النسائي- ثم قال: «بأبي أنت وأمي»، أي: أفديك بهما من الموت، لو كان ذلك ممكنا، «طبت حيا وميتا»، حيث كان صلى الله عليه وسلم طيب الريح والأثر في الدنيا وهو حي، وكذلك طيب الله أثره وريحه وهو ميت، ثم أقسم أبو بكر فقال: «والله الذي نفسي بيده، لا يذيقك الله الموتتين أبدا»، قيل: يعني بذلك: لا يجمع الله عليك شدة بعد الموت؛ لأن الله تعالى قد عصمك من أهوال القيامة. وقيل: لا يموت موتة أخرى في قبره، كما يحيا غيره في القبر، فيسأل ثم يقبض. وقيل: بل أشار بذلك إلى من زعم أنه صلى اللوسلم لم يمت، وأنه سيحيا، فيقطع أيدي رجال وأرجلهم؛ لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى في الدنيا، فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين، كما جمعهما على غيره، كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، وكالذي مر على قرية، كما قص الله نبأهم في سورة البقرة
ثم خرج أبو بكر رضي الله عنه من عنده صلى الله عليه وسلم، وعمر رضي الله عنه يكلم الناس -وكأنه رضي الله عنه ما زال يكرر حلفه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات- فنادى عليه أبو بكر رضي الله عنه بقوله: «أيها الحالف، على رسلك»، أي: تمهل وتوقف، فلما تكلم أبو بكر رضي الله عنه جلس عمر رضي الله عنه، فحمد أبو بكر رضي الله عنه الله تعالى، وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، وصدق عليه قدر الله، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قول الله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر: 30]؛ فإن الكل بصدد الموت، وفي ذلك كله تذكير للناس، واستشهاد على صحة موت النبي صلى الله عليه وسلم، وتلا قول الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا} بارتداده، ومعناها: وما محمد إلا رسول من جنس من سبقه من رسل الله الذين ماتوا أو قتلوا، أفإن مات هو، أو قتل ارتددتم عن دينكم، وتركتم الجهاد؟! ومن يرتد منكم عن دينه فلن يضر الله شيئا؛ إذ هو القوي العزيز، وإنما يضر المرتد نفسه بتعريضها لخسارة الدنيا والآخرة، {وسيجزي الله الشاكرين} [آل عمران: 144]، له أحسن الجزاء بثباتهم على دينه، وجهادهم في سبيله. وهنا تأكد للجميع موت النبي صلى الله عليه وسلم، «فنشج الناس» يبكون، ونشيج الإنسان: إذا غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب، أو هو بكاء معه صوت
ثم إن الصحابة رضي الله عنهم اجتمعوا لاختيار من يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، ويقوم على أمر الأمة، فاجتمع الأنصار -وهم أهل المدينة- إلى سعد بن عبادة، وكان نقيب بني ساعدة؛ لأجل التشاور في أمر الخلافة، وكان هذا الاجتماع في سقيفة بني ساعدة، وهو موضع مسقف يجتمع إليه الأنصار، وبنو ساعدة: بطن من الخزرج، فقال الأنصار للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير، قالوا ذلك على عادة العرب الجارية بينهم؛ ألا يسود القبيلة إلا رجل منهم، فذهب إليهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، لما علموا بهذا الاجتماع، فأراد عمر رضي الله عنه أن يتكلم، فأسكته أبو بكر رضي الله عنه، وكان عمر رضي الله عنه يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت كلاما قد أعجبني، خشيت ألا يبلغه أبو بكر رضي الله عنه بكلامه، ثم تكلم أبو بكر رضي الله عنه، فكان أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن -أي: قريش- الأمراء، وأنتم -أي: الأنصار- الوزراء المستشارون في الأمور؛ وذلك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخلافة لا تكون إلا في قريش، فقال حباب بن المنذر رضي الله عنه معترضا: لا والله، لا نفعل ذلك، ولكن منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا، ولكنا الأمراء، وأنتم الوزراء
ثم تابع أبو بكر رضي الله عنه بأن قريشا أوسط العرب دارا، أي: هم أشرف قبيلة، وأعربهم أحسابا، والحسب: الفعال الحسان، ثم طلب أبو بكر من الحاضرين أن يبايعوا عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح. فأحال عمر رضي الله عنه على الفور البيعة إلى أبي بكر رضي الله عنه، وقال معددا لمناقبه: «فأنت سيدنا، وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم»، ثم أخذ عمر رضي الله عنه بيد أبي بكر رضي الله عنه، فبايعه، وبايعه الناس المهاجرون، وكذا الأنصار، فقال قائل من الأنصار: قتلتم سعد بن عبادة، أي: كدتم تقتلونه، أو هو كناية عن الإعراض والخذلان، فقال عمر رضي الله عنه: «قتله الله» دعاء عليه؛ لعدم نصرته للحق، وتخلفه -فيما قيل- عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وامتناعه منها، والعذر له في تخلفه عن بيعة الصديق: أنه تأول أن للأنصار استحقاقا في الخلافة، فهو معذور وإن كان ما اعتقده من ذلك خطأ
وتخبر عائشة رضي الله عنها عن خطبة كل من عمر وأبي بكر في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول: «فما كانت من خطبتهما»، أي: خطبة أبي بكر وعمر، «من خطبة إلا نفع الله بها، لقد خوف عمر رضي الله عنه الناس»، بقوله: «ليقطعن أيدي رجال وأرجلهم» كان فيهم نفاق، وكانوا موجودين عند موت النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين عرض بهم عمر رضي الله عنه، «فردهم الله بذلك» إلى الحق، «ثم لقد بصر أبو بكر رضي الله عنه الناس الهدى»، وأوضحه لهم، «وعرفهم الحق» الذي عليهم، وخرجوا بسبب قوله وتلاوته ما ذكر وهم يتلون قول الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} إلى قوله: {الشاكرين} [آل عمران: 144]، فأيقنوا بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وعادوا إلى كتاب الله، فكان ذلك تثبيتا لهم على الحق والهدى
وفي الحديث: بيان بعض مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه
وفيه: أن الصدمات قد تذهل عقول بعض الناس، فينبغي الرفق بهم حتى يعودوا إلى وعيهم
وفيه: أن الموت حق على كل حي
وفيه: تغطية الميت بعد موته
وفيه: مشروعية تقبيل الميت بين عينيه
وفيه: سعي عقلاء الأمة وذوي الهيئات في تولي أمور الأمة، وترشيد حالها، ورعاية مصالحها