مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم 553

مسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم 553

- حدثنا أسود بن عامر، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة ، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت ربي تبارك وتعالى " (1)

في هذا الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم بعضا مما علمه ربه سبحانه من الأعمال الصالحة التي تكون سببا لغفران الذنوب، وفيه يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: "احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح"، أي: تأخر في خروجه إلى صلاة الفجر، "حتى كدنا نتراءى عين الشمس"، أي: حتى اقترب طلوع الشمس، "فخرج سريعا، فثوب بالصلاة"، أي: أقيمت الصلاة أول ما خرج إليهم؛ وذلك حتى يدركوا وقتها، "فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجوز في صلاته"، أي: خفف في الصلاة في طولها على غير المعتاد منه صلى الله عليه وسلم، "فلما سلم"، أي: انتهى من الصلاة، "دعا بصوته"، أي: نادى في الصحابة، فقال لهم: "على مصافكم كما أنتم"، أي: ابقوا على هيئتكم وأنتم صفوف كصفوف الصلاة ولا تقوموا ولا تنصرفوا، "ثم انفتل إلينا"، أي: توجه وتحول إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال: "أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة"، أي: سأخبركم ما أخرني عنكم: "أني قمت من الليل"، أي: بعضا منه، فتوضأت فصليت ما قدر لي"، أي: من الركعات، "فنعست في صلاتي" والنعاس: مقدمات النوم، "فاستثقلت"، أي: حتى غلبه النوم، "فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة"، أي: إنه في أثناء استثقاله في النوم رأى ربه سبحانه وتعالى، وقوله (تبارك وتعالى): فيه إشارة إلى التنزيه عما لا يليق بالله تعالى؛ فإنه منزه عن كل نقص، وليس كمثله شيء سبحانه
فقال الله: "يا محمد، قلت: رب لبيك"، أي: مجيبا لنداء ربه، "قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟"، أي: يبحثون، والملأ الأعلى: الأشراف من الملائكة المقربين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أدري رب- قالها ثلاثا-"، أي: جعل الله عز وجل يسأله هذا السؤال ثلاث مرات؛ وذلك لبيان أهميته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي"، أي: شعرت ببردها على قلبي وصدري، كأنه أراد بذلك أن يضع الفيض في قلبه بنزول الرحمة، وانصباب العلوم عليه، وهذا من تخصيصه إياه بمزيد الفضل عليه؛ لأن من ديدن الملوك إذا أرادوا أن يدنوا إلى أنفسهم بعض خدمهم يضعون أيديهم عليهم تلطفا بهم، وتعظيما لشأنهم، ووضع اليد نؤمن به من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، ولا نفسره بما يفسر به صفات الخلق، بل يوكل علم الكيفية إلى الله تعالى
"فتجلى لي"، أي: انكشف وظهر للنبي صلى الله عليه وسلم، " كل شيء، وعرفت"، أي: فيما يختصم الملأ الأعلى، فقال الله عز وجل: "يا محمد"، قلت: "لبيك رب"، قال الله عز وجل: "فيم يختصم الملأ الأعلى؟"، أي: أعاد عليه ربه السؤال بعدما انكشف للنبي صلى الله عليه وسلم شأن ما يتحدثون فيه، قلت: "في الكفارات"، أي: يبحثون ويتكلمون في الكفارات، أي: العبادات التي يغفر ويمحو بها الله عز وجل الذنوب والسيئات، فقال الله عز وجل: "ما هن؟"، أي: ما هي تلك الكفارات؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مشي الأقدام إلى الجماعات"، والمراد بها: صلاة الجماعة بالمسجد؛ لأن المشي لها كما ثبت في تلك الرواية: "لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه خطيئة، حتى يدخل المسجد"، "والجلوس في المساجد بعد الصلاة"، والمراد به: انتظار الصلاة بعد الصلاة، "وإسباغ الوضوء في المكروهات"، أي: على المكاره، والمراد: أنه يبالغ في وصول الماء إلى الأعضاء، وخاصة في البرد الشديد، قال الله عز وجل: "ثم فيم؟"، أي: وأي شيء آخر يكون منه الكفارات؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إطعام الطعام"، أي: للمحتاج والفقير، ويدخل فيه إطعام الضيف والقرى، "ولين الكلام"، أي: الرفق مع الآخرين، وإذا كان الأمر في الكلام فمن الأولى يكون أيضا بالأفعال، "والصلاة بالليل والناس نيام"، أي: قيام الليل
قال الله عز وجل: "سل؟"، أي: اطلب حاجتك، "قل"- وفي رواية: قلت-، أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك فعل الخيرات"، أي: أطلب منك العون على إقامة أوامر الدين والأعمال الصالحة، "وترك المنكرات"، أي: الأعمال المنهي عنها من أقوال وأفعال توجب الذنوب على صاحبها، "وحب المساكين"، وقيل: المراد بالمساكين هنا: من كان قلبه مستكينا لله خاضعا له خاشعا، ولأن المساكين ليس عندهم من الدنيا ما يوجب محبتهم لأجله؛ فلا يحبون إلا لله عز وجل، والحب في الله من أوثق عرى الإيمان، والمحب لأهل الإيمان وأهل طاعة الله تعالى يقرب أن يعمل بعملهم، "وأن تغفر لي"، أي: الذنوب والسيئات، "وترحمني"، أي: تشملني برحمتك، "وإذا أردت فتنة في قوم"، أي: ضلالة أو عقوبة دنيوية، "فتوفني غير مفتون"، أي: دون أن تشملني تلك الضلالة أو العقوبة، "وأسألك حبك وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك"، أي: أنا طالب لمحبة الله، وحب العمل الذي يؤدي فعله إلى التقرب من محبة الله عز وجل
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله عنهم: "إنها حق"، أي: إن تلك الرؤية حق، "فادرسوها"، أي: احفظوا تلك الرؤية وما ورد فيها من أوامر ودعاء، "ثم تعلموها" قيل: أي: لتعلموها فتكون سببا لمعرفتكم للأعمال الصالحة
وفي الحديث: إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لله عز وجل في رؤيا من منامه
وفيه: إثبات أن لله تعالى كفا وأنامل تليق بذاته وجلاله
وفيه: أن من عادته صلى الله عليه وسلم تعجيل الفجر