‌‌مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما181

‌‌مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما181

حدثنا أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حمر النعم أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حجرة (4) ، إذ ذكروا آية من القرآن، فتماروا فيها، حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا، قد احمر وجهه يرميهم بالتراب، ويقول: " مهلا يا قوم، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا، بل يصدق (1) بعضه بعضا، فما عرفتم منه، فاعملوا به (2) ، وما جهلتم منه، فردوه إلى عالمه " (3)

حذَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمَّتَه من سُلوكِ سُبُلِ الأُممِ الهالِكةِ، الَّذِينَ استحَقُّوا عذابَ اللهِ عزَّ وجلَّ بمُخالَفتِهم أنْبياءَهم، واختِلافِهم عليهم، والتَّنازُعِ في أمْرِ القَدَرِ، والاختِلافِ فيه.

وفي هذا الحَديثِ يقولُ عبدُ اللهِ بنُ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما: "لقد جَلسْتُ أنا وأخي" وأَخُوه هنا يَحتَمِلُ أنَّه محمَّدُ بنُ عَمْرِو بنِ العاصِ، وأُمُّه خَوْلةُ بِنتُ حَمْزةَ بنِ السَّليلِ بنِ قَيسِ بنِ طَيِّئٍ، وقد شَهِدَ صِفِّينَ، وقَدِمَ معَ أبيهِ دِمَشقَ بعدَ قَتلِ عُثمانَ رضِيَ اللهُ عنه. "مَجلِسًا ما أُحِبُّ أنَّ لي به حُمْرَ النَّعَمِ" وذلك أنَّه جالَسَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصَحَابَتَه رضِيَ اللهُ عنهم، وشمِلَ هذا الجلوسُ تَحصيلَ عِلمٍ ومَنفعةٍ جليلةٍ، يَنتَفِعُ بها عُمومُ المُسلِمينَ، و"حُمْر النَّعَمِ" هي الإبلُ أو النُّوقُ الحُمْرُ؛ وخُصَّتْ بالذِّكْرِ لكَونِها أفضَلَ الأموالِ عندَ العرَبِ.

قال: "أقبَلْتُ أنا وأخي، وإذا مَشْيَخةٌ من صَحابةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ" وهم جَماعةٌ من كِبارِهم، "جُلوسٌ عندَ بابٍ من أبْوابِه"، ولعَلَّهم كانوا عندَ بابِ إحْدى حُجُراتِ نِسائِه، "فكَرِهْنا أنْ نُفَرِّقَ بينَهم"؛ لأنَّه مَنْهيٌّ عنِ التفْريقِ بينَ المَجالِسِ، والإنسانُ مَأْمورٌ أنْ يَجلِسَ حيثُ انْتَهى به المَجلِسُ، "فجلَسْنا حَجْرةً"، أي: في ناحيةٍ منهم غَيرَ بَعيدٍ "إذ ذَكَروا آيةً منَ القُرآنِ، فتَمارَوْا فيها"، يعني: جادَلوا فيها بعضَهم، ورَدَّ كلُّ واحدٍ منهم فَهْمَ الآخَرِ. وقيلَ معناه: صَرَفوا كتابَ الله بعضَه ببعضٍ عنِ المَعنى المُرادِ إلى ما مالَ إليه أوهامُهم، كما فعلتِ اليَهودُ بالتَّوراةِ، والنَّصارى بالإنجيلِ. وقيلَ: إنَّما جاء هذا الجِدالُ والمِراءُ في الآياتِ التي فيها ذِكرُ القَدَرِ، كما عندَ ابنِ ماجَهْ، فتَجادَلوا في إثباتِهِ ونَفْيه، وكأنَّ كُلًّا منهم كان يَستَدِلُّ بما يُناسِبُ مَطلوبَه منَ الآياتِ، "حتى ارتفَعَتْ أصْواتُهم"، فسَمِعَهمُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فخرَجَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُغضَبًا، قدِ احمَرَّ وَجهُهُ" كِنايةً عن شِدةِ غَضَبِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "يَرْميهم بالتُّرابِ"، ورُبَّما ذلك تَحْقيرًا لشأنِ المُجادَلةِ، "ويقولُ: مَهلًا يا قَومِ، بهذا أُهلِكَتِ الأُمَمُ من قَبلِكم، باختِلافِهم على أنْبيائِهم"؛ فشبَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّمَ حالَهم بحالِ مَن كان قبلَهم منَ المتشكِّكين تشديدًا وتغليظًا، ثم بكَثرةِ الأسئلةِ فيما لا يُفيدُ، ممَّا يتَرتَّبُ عليه فَرْضُ أُمورٍ شاقَّةٍ وصَعبةٍ عليهم، ولم يَستَطيعوا أَداءَها فهَلَكوا بالعِصْيانِ، وهلَكوا بـ"ضَربِهمُ الكتُبَ بعضَها ببعضٍ"، وذلك بادِّعاءِ التناقُضِ بينَها وغيرِ ذلك، والمَعْنى: أنَّ مثلَ هذا كان سببًا في تَمْزيقِ الأُممِ وتَفريقِها، وذلك أنَّهم تَرَكوا ما أُمِروا به، وانشَغَلوا بما يوقِعُهم في غضَبِ اللهِ، "إنَّ القُرآنَ لم يَنزِلْ يُكذِّبُ بَعضُه بَعضًا، بل يُصدِّقُ بَعضُه بَعضًا"، تَأْكيدًا لحَقيقةِ القُرآنِ الكَريمِ، وأنَّه لم يَنزِلْ للجَدَلِ، وإنَّما للعمَلِ بما فيه، "فما عَرَفْتم منه فاعْمَلوا به"، اعْمَلوا بما عَرَفْتم منَ الكتابِ ما استَطَعْتم، "وما جَهِلْتم منه" وهو ما خفِيَ عليكم من أحْكامِهِ وتَفْسيرِه ونَحوِه، "فرُدُّوه إلى عالِمِه" فتَعلَّموه ممَّن هو أعلَمُ منكم منَ العُلماءِ الربَّانيِّينَ، وأهلِ الذِّكرِ في تَفْسيرِه.

وفي الحَديثِ: بيانُ خُطورةِ الجِدالِ في القُرآنِ، والتحْذيرُ منَ التنازُعِ في أُمورِ الدِّينِ. 

وفيه: الأمرُ بالاتِّباعِ وعدَمِ الخَوْضِ فيما فيه الهَلاكُ.

وفيه: سؤالُ أهلِ الذِّكرِ فيما لا نَعلَمُ تَفسيرَه مِن القُرآنِ الكريمِ