‌‌مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه 97

‌‌مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه 97

حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثورعن ابن عباس، قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، اللتين قال الله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4] حتى حج عمر وحججت معه، فلما كنا ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة، فتبرز ثم أتاني، فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما} ؟ فقال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس! - قال الزهري: كره، والله، ما سأله عنه ولم يكتمه عنه - قال: هي (1) حفصة وعائشة. قال: ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي، قال: فتغضبت (2) يوما على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك، فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، قال: فانطلقت، فدخلت على حفصة، فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن، وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئا (1) ، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك - يريد عائشة -.
قال: وكان لي جار من الأنصار، وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينزل يوما، وأنزل يوما، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك، قال: وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يوما، ثم أتاني عشاء فضرب بابي، ثم ناداني فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم. فقلت:وماذا، أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأطول، طلق الرسول نساءه. فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا كائنا.


حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي، ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: لا أدري، هو هذا معتزل في هذه المشربة. فأتيت غلاما له أسود، فقلت استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج إلي، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلا، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج علي (2) ، فقال: قد ذكرتك له فصمت. فخرجت فجلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلي، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فوليت مدبرا، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل، فقد أذن لك. فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو متكئ على رمل حصير - وحدثناه يعقوب في حديث صالح قال: رمال حصير - قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع (1) رأسه إلي وقال: " لا " فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فتغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر، أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله (2) ، فإذا هي قد هلكت؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، فدخلت على حفصة، فقلت: لا يغرك (3) أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فتبسم أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: " نعم ". فجلست، فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر إلا أهبة (4) ثلاثة، فقلت: ادع يا رسول الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم، وهم لا يعبدون الله. فاستوى جالسا، ثم قال: " أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " فقلت: استغفر لي يا رسول الله.

وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن، حتى عاتبه الله عز وجل (1)

 قَوْلُهُ: "يَوْمُ بَدْرٍ" : - بِالرَّفْعِ - عَلَى أَنَّ "كَانَ" تَامَّةٌ; أَيْ: تَحَقَّقَ، أَوْ - بِالنَّصْبِ - عَلَى أَنَّهَا نَاقِصَةٌ; أَيْ: كَانَ الزَّمَانُ يَوْمَ بَدْرٍ.

 "وَنَيِّفٌ" : - بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَقَدْ تُشَدِّدُ الْيَاءُ مَكْسُورَةٌ - ، قِيلَ: وَهُوَ الْأَصْلُ الْأَكْثَرُ: الزِّيَادَةُ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ عَقْدًا.

 "أَيْنَ مَا وَعَدْتَنِي؟" : طَلَبٌ لِلْمُسَارَعَةِ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ.

 "إِنْ تُهْلِكْ" : "إِنْ" شَرْطِيَّةٌ جَازِمَةٌ، وَ"تُهْلِكْ" مِنَ الْإِهْلَاكِ، أَوْ مِنَ الْهَلَاكِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ: هَذِهِ الْعِصَابَةُ، وَالْمُرَادُ: الصَّحَابَةُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ.

* "هَذِهِ الْعِصَابَةُ" : - بِكَسْرِ الْعَيْنِ - : الْجَمَاعَةُ، قِيلَ: هُمُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْعَشْرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ.

قُلْتُ: مُقْتَضَى الْحَدِيثِ الْإِطْلَاقُ وَتَرْكُ التَّقْيِيدِ وَالتَّحْدِيدُ بِمَا ذُكِرَ.

* "فَلَا تُعْبَدْ" : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ وَالْجَزْمِ; أَيْ: وَأَنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُعْبَدَ، فَانْصُرْهُمْ، وَلَا تُهْلِكْهُمْ، فَفِيهِ تَوَسُّلٌ إِلَى الِاسْتِجَابَةِ، قِيلَ: قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، فَلَوْ هَلَكَ هُوَ وَمَنْ تَبِعَهُ حِينَئِذٍ، لَا يُبْعَثُ أَحَدٌ يَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ.

 قُلْتُ: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِصَابَةِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ رُبَّمَا يُقَالُ: مَا كَانَ مَعَهُ كُلُّ الصَّحَابَةِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: عِنْدَ هَلَاكِ هَؤُلَاءِ يُخَافُ عَلَى الْبَاقِينَ الْهَلَاكُ أَوِ الِارْتِدَادُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ الدُّعَاءُ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ بِهِ الْوَعْدُ الصَّادِقُ; لِكَوْنِهِ تَعَالَى غَنِيًّا لَا يُبَالِي بِشَيْءٍ، وَإِنَّ الْوَعْدَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِقَيْدٍ وَقَعَ التَّقْصِيرُ مِنْهُمْ فِي مُرَاعَاتِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا عَلَى وَجَلٍ مِنَ الْأَمْرِ وَخَوْفٍ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ الِاغْتِرَارُ فِي حَالٍ، وَإِلَّا، فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْغَايَةِ الْقُْوَى فِي الْعِلْمِ بِصِدْقِ وَعْدِهِ تَعَالَى.

وَقِيلَ: بَلْ كَانَ الْوَعْدُ مُجْمَلًا، فَكَانَ جَائِزًا عِنْدَهُ أَلَّا يَقَعَ النَّصْرُ يَوْمَئِذٍ; لِأَنَّ وَعْدَهُ بِالنَّصْرِ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا لِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ.

قُلْتُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمَا صَحَّ أَنْ يَقُولَ: "لَمْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا"; لِأَنَّ النَّصْرَ إِذَا كَانَ بِالْآخِرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا بُدَّ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ، وَأَيْضًا كَوْنُ الْوَعْدِ مُجْمَلًا خِلَافُ الظَّاهِرِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: دُعَاؤُهُ بِذَلِكَ لِيَرَاهُ أَصْحَابُهُ بِتِلْكَ الْحَالِ، فَتَقْوَى قُلُوبُهُمْ بِدُعَائِهِ وَتَضَرُّعِهِ، مَعَ أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، وَقَدْ كَانَ وَعْدُ اللَّهِ تَعَالَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، إِمَّا الْعِيرُ، وَإِمَّا الْجَيْشُ، وَكَانَتُ الْعِيرُ قَدْ ذَهَبَتْ وَفَاتَتْ، فَكَانَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ حُصُولِ الْأُخْرَى، وَلَكِنْ سَأَلَ تَعْجِيلَ ذَلِكَ وَتَنْجِيزَهُ مِنْ غَيْرِ أَذًى يَلْحَقُ الْمُسْلِمِينَ، انْتَهَى. قُلْتُ: ظَاهِرُ لَفْظِ الدُّعَاءِ يَأْبَى ذَلِكَ; لِدَلَالَتِهِ عَلَى جَوَازِ هَلَاكِ الْعِصَابَةِ، فَالْوَجْهُ مَا ذَكَرْنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

* "فَرَدَّاهُ" : - بِالتَّشْدِيدِ - ; أَيْ: أَلْبَسَهُ الرِّدَاءَ.

 "كَذَاكَ" : قَالَ النَّوَوِيُّ: هَكَذَا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِالذَّالِ، وَلِبَعْضِهِمْ: "كَفَاكَ" - بِالْفَاءِ - ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: "حَسْبُكَ"، وَكُلُّهُ بِمَعْنًى. "مُنَاشَدَتُكَ": الْمُنَاشَدَةُ: السُّؤَالُ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّشِيدِ، وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَهُوَ - بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ - لِلْكَفِّ الْمَفْهُومِ مِنَ الْكِفَايَةِ - وَالنَّصْبُ - أَشْهَرُ، وَلَعَلَّ الصِّدِّيقَ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ تَبْشِيرًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظُهُورِ آثَارِ إِنْجَازِ الْوَعْدِ; حَتَّى يُخَفِّفَ عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ غَايَةِ الشِّدَّةِ، فَلَا يَرِدُ أَنَّهُ كَيْفَ لِلصِّدِّيقِ ذَاكَ، مَعَ أَنَّ يَقِينَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوْقَ يَقِينِ كُلِّ أَحَدٍ؟

 "بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ" : قِيلَ: أَيْ: مُتَتَابِعِينَ، بَعْضُهُمْ فِي أَثَرِ بَعْضٍ، وَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّ الْأَلْفَ جَاءُوا أَوَّلًا، ثُمَّ صَارُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ صَارُوا خَمْسَةَ آلَافٍ.

 "فَهَزَمَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - الْمُشْرِكِينَ" : أَيْ: كَسَرَهُمْ، وَنَصَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ.

 وَالْإِخْوَانُ": أَيْ: نَسَبًا لَا دِينًا.

"حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَتْ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ": الْهَوَادَةُ: اللِّينُ، وَالْمُرَادُ: حَتَّى لَا يَبْقَى فِينَا لِينٌ لِلْكَفَرَةِ، فَيَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَّا ذَلِكَ مَوْجُودًا كَائِنًا; فَإِنَّ عِلْمَ الشَّيْءِ مَوْجُودًا، يَكُونُ حِينَ وُجُودِهِ.

 "صَنَادِيدُهُمْ" : رُؤَسَاؤُهُمْ.

"فَهَوِيَ" : - بِكَسْرِ الْوَاوِ - ; أَيْ: أَحَبَّهُ وَاسْتَحْسَنَهُ.

 "تَبَاكَيْتُ" : أَيْ: تَكَلَّفْتُ فِي حُصُولِهِ; لِلْمُوَافَقَةِ.

 "عَذَابُكُمْ" : أَيْ: عَذَابُ مَنْ عَرَضَ مِنْكُمْ، أَوْ عَذَابُ الْكُلِّ.

"حَتَّى يُثْخِنَ" : أَيْ: يُكْثِرَ الْقَتْلَ وَالْقَهْرَ فِي الْعَدُوِّ.

 "رَبَاعِيَّتُهُ" : الرَّبَاعِيَّةُ: كَالثَّمَانِيَةِ.

 "وَهُشِمَتْ" : كُسِرَتْ.