من قاتل في سبيل الله تعالى وعليه دين 4
سنن النسائي
أخبرنا عبد الجبار بن العلاء، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع محمد بن قيس، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: يا رسول الله، أرأيت إن ضربت بسيفي في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر حتى أقتل، أيكفر الله عني خطاياي؟ قال: «نعم» فلما أدبر دعاه، فقال: " هذا جبريل يقول: إلا أن يكون عليك دين "
تَتفاضَلُ الأعمالُ في الأجرِ والثَّوابِ، ويكونُ التَّفاضلُ بيْنَ النَّاسِ بقَدْرِ ما يَقومونَ به مِن أعمالٍ صالحةٍ، وتَرْكِ ما نُهوا عنه، وقدْ بَيَّن الشَّرعُ فَضائلَ بعضِ الأعمالِ؛ مِن الإيمانِ، والجهادِ في سَبيلِ اللهِ، وغيرِها مِن الطَّاعاتِ والأعمالِ الصَّالحةِ
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أبو قَتادَةَ الأنصاريُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قام وَاعظًا في أصحابِه ذاتَ يومٍ، «فَذكرَ لهم أنَّ الجهادَ في سَبيلِ اللهِ والإيمانَ بِاللهِ أفضلُ الأعمالِ»؛ وذلك لأنَّ الجهادَ في سَبيلِ اللهِ يكونُ بالنَّفْسِ والمالِ معًا، وبه تَعْلو كَلِمةُ اللهِ عزَّ وجلَّ وتَقْوى شَوكةُ المُسلِمينَ، فلا يَطمَعُ فيهم عَدُوُّهم ولا يَستبيحُهم، وجَعَلَ الإيمانَ أفضَلَ الأعمالِ؛ لأنَّه راجعٌ إلى مَعرفةِ اللهِ تَعالَى ورَسولِه وما جاء به، وهو المُصحِّحُ لأعمالِ الطَّاعاتِ كلِّها، فالجهادُ أصلٌ في إقامةِ الدِّينِ ونَشرهِ، والإيمانُ أصلٌ في تَصحيحِ الدِّينِ، فجَمَع بيْنَ الأصلينِ في الأفضليَّةِ، «فقامَ رجلٌ» -وفي روايةٍ: أنَّ رجُلًا جاء- فقال: يا رسولَ اللهِ» أَخْبِرْني «إنْ قُتلْتُ » وأنا أُجاهِدُ «في سَبيلِ اللهِ» فاسْتُشهِدْتُ في سَبيلِ إعلاءِ كَلمةِ اللهِ، فهلْ «تُكَفَّرُ» عَنِّي خَطاياي وذُنوبي؟ فَأَجابَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «نعمْ» يُكفِّرُ اللهُ عنك ذُنوبَكَ، «إنْ قُتِلتَ في سبيلِ اللهِ وأنتَ صابرٌ» غيرُ جَزِعٍ، «مَحْتَسِبٌ»، أي: مُخلِصٌ للهِ عزَّ وجلَّ بنِيَّتِكَ، طالبٌ الأجرَ والمثوبةَ مِن اللهِ، فلا تُريدُ به غيْرَ وَجهِه سُبحانه، وليْس طَلَبًا لِلرِّياءِ والسُّمْعَةِ، «مُقْبِلٌ» على العدُوِّ «غيرُ مُدْبِرٍ» هَرَبًا وخَوفًا، وهذا احترازًا مِمَّنْ يُقبِلُ في وقتٍ ويُدبرُ في وقتٍ، وفي رِوايةِ النَّسائيِّ: «فلَمَّا وَلَّى الرَّجلُ ناداهُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو أمَرَ به فنُودِيَ له»، «ثُمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: كيفَ قُلتَ؟» أي: أَعِدِ القولَ والسُّؤالَ، فكَرَّر الرَّجلُ سُؤالَه، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: نَعَمْ، تُكفَّرُ عنكَ الخَطايا كلُّها إنْ قُتِلْتَ «وأنتَ صابرٌ محتسِبٌ، مُقِبلٌ غيرُ مُدْبِرٍ، إلَّا الدَّيْنَ»، وهذا يَعني أنَّ القتْلَ في سَبيلِ اللهِ على الصِّفةِ المذكورةِ لا يُكفِّرُ عن الشَّهيدِ دُيونَ الخلْقِ؛ فإنَّ دُيونَهم لا يُكفِّرُها إلَّا عَفوُ صاحبِها أو استيفاؤُها. ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للرَّجلِ السَّائلِ: «فإنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ قال لي ذلك» أي: أخْبَرَني بأنَّ الدَّينَ لا يُكفَّرُ بالشَّهادةِ، وهذا مِن الحضِّ على السَّعيِ في قَضاءِ الدَّينِ قبْلَ بُلوغِ الإنسانِ أجَلَهُ، وفي هذا تَنبيهٌ على جميعِ حقوقِ الآدَمِيِّينَ، وأنَّ الجهادَ والشَّهادةَ وغيرَهما مِن أعمالِ البِرِّ لا يُكفِّرُ حقوقَ الآدَمِيِّين، وإنَّما يُكفِّرُ حقوقَ اللهِ تَعالَى
وفي الحديثِ: أنَّ الأعمالَ لا تنفَعُ إلَّا بِالنِّيَّةِ والإخلاصِ للهِ تَعالَى
وفيه: التَّحذيرُ مِنَ التَّساهُلِ في الدَّيْنِ، وأنَّه لا ينبغي لِلإنْسانِ أنْ يَتَساهلَ في الدَّيْنِ