هل يحرم إذا قلد
سنن النسائي
أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، أنهم كانوا إذا كانوا حاضرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، «بعث بالهدي، فمن شاء أحرم، ومن شاء ترك»
لقدْ نقَلَ الصَّحابةَ رَضِي اللهُ عَنهم عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مَناسكَ الحَجِّ، وما يُفعَلُ فيه مِن إحرامٍ وهَدْيٍ، وغيرِ ذلك
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضِي اللهُ عَنهما: "أنَّهم"، أي: الصَّحابةَ رضِي اللهُ عنهم، "إذا كانوا حاضِرينَ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بالمدينةِ"، وفي هذا إشارةٌ إلى إقرارِه صلَّى الله عليه وسلَّم لفِعلِهم الذي سَيذْكُرُه، "بعَث بالهَدْيِ"، أي: أَرسَل بالهَدْيِ إلى البَيتِ الحرامِ، وهذا يَشمَلُ هَدْيَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهَدْيَ مَن أرادَ مِن أصحابِه رضِي اللهُ عنهم أن يُهدِيَ، والهَدْيُ: اسمٌ لِمَا يُهدَى ويُذبَحُ في الحرمِ؛ مِن الإبلِ والبقَرِ والغَنَمِ والمَعْزِ، "فمَن شاء أحرَمَ، ومَن شاء ترَكَ"، وهذا الكلامُ يَحتَمِلُ أكثرَ مِن معنًى؛ فَيحتمل أنْ يكونَ إشارةً إلى أنَّ الَّذي يَبعَثُ بالهَدْيِ هو مَن يُنوي الحَجَّ أو العُمرةَ في نَفْسِ العامِ؛ فيكون مُخيَّرًا بين أن يُحُرِمَ عند بَدْءِ إرسالِه بالهَدْيِ، وبَينَ أنْ يَبقَى حلالًا إلى حِينِ وُصولِه إلى الميقاتِ، فيُحرِمَ منه. ويَحتمِلُ أنْ يَكونَ المعنى: أنَّ مَن أرسل بالهَدْيِ مُخيَّرٌ بينَ أنْ يُحرِمَ بالحجِّ أو العُمرةِ في نفْسِ العامِ وأنْ يُتمِّهما، وبينَ أنْ يَترُكَ الحجَّ أو العُمرةَ ولا يُحرِمُ بهما، ويكون هَدْيُه قُربةً وتطوعًا للهِ تعالى، كما كان يَفعلُ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم
ولا تَعارُضَ بينَ المَعنَيينِ؛ فقدْ ثبَت عنه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه كان يُرسِلُ هديًا إلى البيتِ الحرامِ في غيرِ العامِ الذي حَجَّ فيه وكان لا يَجتنِبُ شيئًا ممَّا يَحرُمُ على المحرِم، وثبَت عنه أيضًا أنَّه لَمَّا أرادَ الحجَّ بعَثَ بالهَدْيِ، ثمَّ أَحْرَمَ مِن ذِي الحُلَيفةِ عندَ الميقاتِ، كما في الصَّحيحَينِ: أنَّ زِيادَ بنَ أبي سُفيانَ كتَب إلى عائِشةَ رضِيَ اللهُ عنها: إنَّ عبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ قال: مَن أهْدَى هَديًا حرُمَ عليه ما يَحرُمُ على الحاجِّ، حتى يَنحرَ هَدْيَه؟ فقالتْ عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها: ليس كما قال ابنُ عبَّاسٍ؛ "أنا فَتلتُ قلائِدَ هَدْيِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بيَدي، ثم قلَّدَها رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بيَديهِ، ثم بَعَثَ بها مع أبي، فلمْ يَحرُمْ على رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم شيءٌ أحلَّه اللهُ له، حتَّى نَحَر الهَدْيَ"، وهذا كان عامَ تِسعٍ مِن الهِجرةِ، وكان آخِرَ ما فَعلَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، حيثُ أرسلَ الهَدْيَ مع أبي بكرٍ رضِيَ اللهُ عنه ولم يُحرِمْ، ولم يَمتنِعْ عن شيءٍ ممَّا يَمتنِعُ منه المُحرِمُ، كما في رِوايةٍ أخرى عن عائشةَ رضِيَ اللهُ عنها أيضًا، قالتْ: "إنْ كُنتُ لأفتِلُ قلائدَ هدْيِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ثمَّ يَبعَثُ بها، فما يَجتنِبُ شيئًا ممَّا يَجتنِبُ المحرمُ»، وأخرَجَ النسائيُّ عن عائِشةَ رضِيَ اللهُ عنها، قالتْ: "إنْ كنتُ لأفتِلُ قلائدَ هَدْيِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويُخرَجُ بالهَدْيِ مُقلَّدًا، ورَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم مُقيمٌ ما يَمتنِعُ مِن نِسائِه"، وهذا كان في غَيرِ العامِ الذي حجَّ فيه
وفي الحديث: بيانُ مَشروعيَّةِ إرسالِ المسلمِ الهدْيَ إلى البيتِ الحرامِ على كلِّ حالٍ، سواءٌ نوَى الحجَّ أم لم يَنوِه
وفيه: تَخييرُ مَن قلد الهَدْيَ وأرْسلَ بِه وكان نوَى الحجَّ بين أنْ يُحرِمَ إذا قَلَّدَ الهَدْيَ وبعَثَ به، أو لا يُحرِمَ ويُؤخِّرَ الإحرامَ إلى الميقاتِ