استتابة المتلاعنين بعد اللعان
سنن النسائي
أخبرنا زياد بن أيوب، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عمر: رجل قذف امرأته، قال: فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان، وقال: «الله يعلم إن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟» قال لهما ثلاثا فأبيا، ففرق بينهما قال أيوب: وقال عمرو بن دينار: " إن في هذا الحديث شيئا لا أراك تحدث به؟ قال: قال الرجل: مالي؟ قال: لا مال لك إن كنت صادقا فقد دخلت بها، وإن كنت كاذبا فهي أبعد منك "
شَرَعَ اللهُ عزَّ وجلَّ اللِّعانَ بيْن الزَّوجَيْنِ حِينَ تَقَعُ الفاحشةُ مِن الزَّوجةِ، ولا تُوجَدُ البيِّنةُ؛ لحِفْظِ الأنسابِ ودَفْعِ المعَرَّةِ عَنِ الأزْواجِ، ولدَرْءِ حدِّ القَذْفِ
وفي هذا الحَديثِ يروي عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ هِلالَ بنَ أُمَيَّةَ رَضيَ اللهُ عنه -وهو أحدُ الثَّلاثةِ الذين خُلِّفوا وتِيبَ عليهم- قَذَفَ زَوْجتَه فاتَّهمها بالزِّنا بِشَريكِ بنِ سَحْماءَ، فَقالَ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إِمَّا أن تُقيمَ عليها البَيِّنةَ، أو أُقيمَ عَلَيْك حَدَّ القَذْفِ في ظَهْرِك، وهو ثمانون جلدةً لكُلِّ من يرمي امرأةً مُسلِمةً بالفاحِشةِ دونَ بَيِّنةٍ، فقالَ مُتَعَجِّبًا: إِذا رَأى أحَدُنا عَلى امْرَأتِه رَجُلًا يَذهَبُ يَلْتَمِسُ البَيِّنةَ! أي: كَيْفَ أُكَلَّفُ بالبَيِّنةِ وأنا لا يُمْكِنني ذَلِكَ؛ لِأنَّني مَتى ذَهَبتُ لإحضارِ الشُّهودِ، فَرَّ الرَّجُلُ مِن البَيْتِ، فَجَعَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: «البَيِّنةَ»، أي: أَحضِرِ البَيِّنةَ، وبَيِّنةُ حَدِّ الزِّنا شهودُ أربعةِ رِجالٍ، أو جَزاؤُك الحَدُّ في ظَهرِك. فَقالَ هِلالٌ: والَّذي بَعَثَك بالحَقِّ، إِنِّي لَصادِقٌ، وليُنْزِلَنَّ اللهُ ما يُبرِّئُ ظَهْري مِن الحَدِّ، أي: ما يُخَلِّصني مِنه! وهذا من شِدَّةِ صِدْقِه وثِقَتِه الكبيرةِ بالله، فَنَزَلَ جِبْريلُ وأنْزَلَ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6 - 9]، وهي آياتُ المُلاعَنةِ الَّتي تُبَرِّئ ظَهْرَه مِن الحَدِّ، فَأرْسَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهما، فَجاءَ هِلالٌ فَشَهِدَ على زوجتِه أربَعَ شهاداتٍ أنَّها زَنَت، وقالَ في الخامِسةِ: إنَّ لَعْنةَ اللهِ عليه إنْ كانَ مِن الكاذِبينَ، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ لهما: إنَّ اللهَ يَعلَم أنَّ أحَدَكما كاذِبٌ؛ فهلْ مِنكما تائِبٌ؟ ثمَّ قامَتْ زَوْجتُه فَشَهِدَتْ، فَلَمَّا كانت عِنْدَ الخامِسةِ، أوْقَفوها عَن النُّطْقِ بِهَذِه الشَّهادةِ وقالوا: إِنَّها مُوجِبةٌ، أي: احْذَري أنْ تُؤَدِّي الشَّهادةَ الخامِسةَ وأنْتِ كاذِبةٌ؛ فَإِنَّها مُوجِبةٌ للعذابِ الشَّديدِ يومَ القيامةِ، «فَتَلَكَّأَتْ»، أي: تَوَقَّفَتْ وتَرَدَّدَتْ وتَأخَّرَتْ بَعضَ الوقتِ في أدائِها، «وَنَكَصَتْ»، أي: رَجَعَتْ إلى الوَراءِ، حَتَّى ظَنُّوا أنَّها سَتَرْجِع عَن إِتْمامِ المُلاعَنة، وتَعْتَرِف بِجَريمتِها، ثمَّ قالت: «لا أفْضَحُ قَوْمي سائِرَ اليَوْمِ»، أي: لا أجْلِب الفَضيحةَ والخِزْيَ والعارَ لِقَوْمي مَدى الحَياةِ، فَمَضَتْ واستَمَرَّتْ وأتَمَّتِ المُلاعَنةَ حِرْصًا منها عَلى سُمْعةِ قَوْمِها، فَقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أبْصِروها»، أي: راقبوها وانْظُروا إلى ولَدِها وتَأمَّلوا في صُورةِ وجْهِه وجِسْمِه عندَ ولادتِه، «فَإِن جاءَتْ بِه أَكْحَلَ العَيْنَيْنِ» يَعْني أسْوَدَ الجُفونِ، «سابِغَ الألْيَتَيْنِ»، أي: ممُتلِئَ لحمِ المؤخِّرةِ، «خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ»، أي: عَظيمَ السَّاقينَ، فَهو لِشَريكِ ابنِ سَحْماءَ، أي: ابنُه، فولَدَتْ ولَدًا يُشْبِه شَريكًا في الصِّفاتِ المَذْكورةِ، فَقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لَوْلا ما مَضى مِن كِتابِ اللهِ تَعالى لَكانَ لي ولَها شَأْنٌ»، أي: لَوْلا ما سَبَقَ مِن حُكمِ اللهِ تَعالى بِدَرْءِ الحَدِّ عَن المَرْأةِ بِلِعانِها، لَأقَمتُ الحَدَّ عَلَيْها
وفي الحَديثِ: الرُّجُوع إلى مَن له الأمرُ في الأحكامِ وفي غوامِضِ الأمورِ؛ مِثلُ العُلَماءِ والحُكَّامِ
وفيه: أداءُ الأحكامِ على الظَّاهِرِ، واللهُ يَتَوَلَّى السَّرائرَ
وفيه: أنَّ من قذف زوجتَه بالزِّنا لزمه أحَدُ أمرينِ؛ إمَّا البيِّنةُ، أو اللِّعانُ، فإن عجز عن إقامةِ البَيِّنةِ، وامتنع عن اللِّعانِ، حُدَّ حَدَّ القَذْفِ