الاستعاذة من الهرم 1
سنن النسائي
أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، عن هارون بن إبراهيم، عن محمد، عن عثمان بن أبي العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذه الدعوات: «اللهم إني أعوذ بك من الكسل، والهرم، والجبن والعجز، ومن فتنة المحيا والممات»
العَبدُ عاجزٌ عَن الاستِقلالِ بجَلْبِ مَصالحِه ودَفعِ مَضارِّهِ، ولا مُعِينَ له على مَصالحِ دِينِه ودُنياهُ إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ؛ فمَن أعانَهُ اللهُ فهو المُعانُ، ومَن خذَلَهُ اللهُ فهو المَخْذولُ
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ أنسُ بنُ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَدعُو اللهَ قائلًا: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بك»، والاستِعاذَةُ أوِ التَّعوُّذُ باللهِ تعالَى: الالتِجاءُ إلى اللهِ، والاعتِصامُ، والتَّحصُّنُ والاحتِماءُ به سُبحانَه، مِن «البُخْلِ» وهو مَنْعُ ما يَجِبُ بَذْلُه من المالِ مع توفُّرِه والقُدرةِ عليه، «والكَسَلِ» وهو التَّثاقُلُ عمَّا لا يَنبغِي التَّثاقُلُ عنه وتَرْكُ فِعْلِه، ويكونُ لعَدَمِ انبعاثِ النَّفْسِ للخيرِ مع ظُهورِ الاستطاعةِ والقُدرةِ على فِعْلِه. ودعا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أيضًا أن يُعيذَه اللهُ مِن أَرْذَلِ العُمُرِ، أي: الهَرَمِ، وهو كِبَرُ السِّنِّ المؤدِّي إلى ضَعْفِ القُوَى، وسَببُ استعاذةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم منه: ما فيه مِن الخَرَفِ واختلالِ العَقلِ والحَوَاسِّ والضَّبطِ والفَهمِ، وتَشويهِ بعضِ المَناظِرِ، والعَجزِ عن كَثيرٍ مِن الطَّاعاتِ والتَّساهُلِ في بعضِها
ودعا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُعيذَه اللهُ مِن عذابِ القَبْرِ، واستعاذ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه أوَّلُ مَنزِلٍ مِن منازِلِ الآخرةِ، وإذا سَلِمَ صاحبُهُ منه سلَّمَه اللهُ مِن عَذابِ جَهنَّمَ في الآخِرةِ
ودعا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُعيذَه اللهُ مِن فِتنةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، والفِتنةُ: هي الاختِبارُ والامتِحان، وفِتنةُ المسيحِ الدَّجَّالِ مِن أعْظَمِ الفِتَنِ وأخطَرِها، ولذلك حذَّرت الأنبياءُ جميعًا أُمَمَها مِن شَرِّه وفِتنتِه، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَستعِيذُ مِن فِتنتِه في كلِّ صلاةٍ، وبيَّن أنَّ فِتنتَه مِن أكبرِ الفِتَن مُنذ خَلَق اللهُ آدَمَ عليه السَّلامُ إلى قِيامِ السَّاعةِ، وسُمِّيَ مَسِيحًا لأنَّه مَمْسوحُ العَيْنِ مَطْموسُها؛ فهو أَعْوَرُ، وسُمِّي الدَّجَّالَ تَمْيِيزًا له عن المَسِيحِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ عليه السَّلامُ، مِنَ التَّدْجِيلِ بمعنىَ التَّغطِيَةِ؛ لأنَّه كَذَّابٌ يُغَطِّي الحقَّ ويَستُرُه، ويُظهِرُ الباطِلَ. وهو علامةٌ كُبرى من علاماتِ آخِرِ الزَّمانِ
ودعا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أيضًا أن يُعيذَه اللهُ مِن فِتنة المَحْيَا والمَمَاتِ، أي: زَمَنِ الحياةِ والموتِ، ففِتنةُ المَحْيَا: ما يَعرِض للإنسانِ مُدَّةَ حَياتِه مِنَ الافتِتَانِ بالدُّنيا والشَّهَوَاتِ والجَهَالاتِ، وما يُبتلَى به مع زَوالِ الصَّبْرِ والرِّضَا والوُقوعِ في الآفاتِ، وأعظمُها -والعِياذُ باللهِ- أمرُ الخاتِمَةِ عندَ الموتِ. وفِتنةُ المَمَاتِ قِيل: كفِتنةِ الإنسانِ في دِينِه عِندَ المَوتِ، وقيل: كسُؤالِ الملَكَينِ ونَحوِ ذلك مما يقَعُ في القَبرِ، والمرادُ: مِن شَرِّ سُؤالِهما، وإلَّا فأصلُ السُّؤالِ واقِعٌ لا محالةَ
وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتعوَّذُ مِن المذكوراتِ دفْعًا عن أُمَّتِه، وتشريعًا لهم؛ ليُبَيِّنَ لهم صفةَ المُهِمِّ مِنَ الأدعِيَةِ
وفي الحَديثِ: إثباتُ عَذابِ القَبرِ وفِتنتِه
وفيه: ضَرورةُ الاستعانةِ باللهِ لبُلوغِ النجاةِ في الدُّنيا والآخرةِ
وفيه: قُبحُ صِفةِ البُخلِ في الإنسانِ