باب فى التقنع
حدثنا محمد بن داود بن سفيان حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر قال قال الزهرى قال عروة قالت عائشة رضى الله عنها بينا نحن جلوس فى بيتنا فى نحر الظهيرة قال قائل لأبى بكر رضى الله عنه هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقبلا متقنعا فى ساعة لم يكن يأتينا فيها فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن فأذن له فدخل.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف لأصحابه قدرهم كما يعرف أخلاقهم، ويفهم ما في نفوسهم، وما يحبونه وما يكرهونه، وكان يراعي أحوالهم وطبائعهم، وينزل كل واحد منهم منزلته
وفي هذا الحديث تروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مضطجعا، أي: نائما على جنبه أو متكأ، وكان ذلك في حجرتها، وفي رواية أخرى لمسلم أنه كان لابسا مرط عائشة رضي الله عنها، والمرط: كساء من صوف أو كتان أو غيره، والمراد به: الإزار، «كاشفا عن فخذيه أو ساقيه» والفخذ هو الجزء الذي يكون فوق الركبة من الأمام، والساق ما تحتها، فاستأذن أبو بكر رضي الله عنه للدخول والجلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له بالدخول وهو على تلك الحال مضطجعا وكاشفا للفخذ أو الساق، فتحدث مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف كما في رواية مسلم السابقة، ثم جاء عمر رضي الله عنه واستأذن، فأذن صلى الله عليه وسلم له بالدخول، وظل النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعا وكاشفا للفخذ أو الساق، فتحدث فقضى له حاجته، ثم انصرف، ثم جاء عثمان بن عفان رضي الله عنه فاستأذن، فجلس صلى الله عليه وسلم، بعدما كان مضطجعا وسوى ثيابه، وغطى فخذيه أو ساقيه بالثوب، وفي رواية لمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: «اجمعي عليك ثيابك»، أي: ضميها وبالغي من تسترك بها، ويحتمل أن يكون هذا قبل فرض الحجاب، فتحدث عثمان رضي الله عنه، فقضى له حاجته، ثم انصرف، قال محمد -وهو ابن أبي حرملة- أحد رواة الحديث: «ولا أقول ذلك في يوم واحد» يعني: أن دخول كل واحد كان في يوم غير يوم دخول الآخر، فلما خرج عثمان رضي الله عنه سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: دخل أبو بكر فلم «تهتش له»، والهشاشة: البشاشة وطلاقة الوجه وحسن الالتقاء، «ولم تباله» ولم تكترث له وظللت على حالك كاشفا للفخذ أو الساق، ثم دخل عمر، فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك! وغطيت فخذيك أو ساقيك بالثوب، وفي رواية لمسلم أنها قالت: «ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما فزعت لعثمان؟» أي: لم تهتم لهما وتحتفي بهما كما فعلت مع عثمان، فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة؟!» فغطى النبي صلى الله عليه وسلم فخذه واهتم لدخول عثمان رضي الله عنه استحياء له، لما كان الغالب عليه الحياء، فجزاه النبي صلى الله عليه وسلم عليه من جنس فعله.
وفي رواية أخرى عند مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال ألا يبلغ إلي في حاجته» أي: خشي أن يمنعه حياؤه من عرض حاجته عليه وهو على الحال التي قابل بها أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
وهذا وإن كان فيه فضيلة لعثمان رضي الله عنه إلا أنه لا يحط من قدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عنده صلى الله عليه وسلم، وقلة الالتفات إليهما؛ لأن قاعدة المحبة إذا كملت واشتدت ارتفع التكلف، كما قيل: إذا حصلت الألفة بطلت الكلفة، والله أعلم.
وفي الحديث: فضل عثمان رضي الله عنه، وشدة حيائه
وفيه: أن الحياء صفة جميلة من صفات الملائكة
وفيه: الحث على توقير من يستحق من الناس، ولا سيما من المشايخ والعلماء والصالحين
وفيه: الإذن في الدخول على الغير