الدعاء 2
سنن النسائي
أخبرنا هارون بن عبد الله، قال: حدثنا معن، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن حبيب بن عبيد الكلاعي، عن جبير بن نفير الحضرمي، قال: سمعت عوف بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على ميت فسمعت في دعائه وهو يقول: " اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة ونجه من النار ـ أو قال ـ: وأعذه من عذاب القبر "
المقصودُ مِن الصَّلاةِ على الميِّتِ الدُّعاءُ والاستغفارُ له، وقدْ ورَدَت أدعيةٌ مُتعدِّدةٌ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم تُقالُ في صَلاةِ الجنازةِ، والأفضلُ أنْ يَدعُوَ المُصلِّي بهذه الأدعيةِ الواردةِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وإنْ دَعا بغيرِها فلا حرَجَ عليه، ويكونُ الدُّعاءُ للميِّتِ بعدَ التَّكبيرةِ الثَّالثةِ، ويَدْعو سِرًّا بأحسَنِ ما يَحضُرُه، ولكنْ عليه أنْ يُخلِصَ الدُّعاءَ للميِّتِ
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ عوْفُ بنُ مالكٍ الأشجعيُّ رَضِي اللهُ عنه أنَّه حضَرَ صَلاةَ جنازةٍ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وكان مِن دُعائهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم الَّذي حَفِظَه عوْفٌ رَضِي اللهُ عنه: «اللَّهمَّ اغفِرْ لَه» وذلك بمَحوِ السَّيِّئاتِ والذُّنوبِ، «وارحَمْه» بقَبولِ الطَّاعاتِ، «وعافِه»، أي: ادْفَعْ عنه المَكروهاتِ، وسلِّمْه منَ العَذابِ، «واعفُ عنهُ»، أي: عمَّا وقَعَ منه مِن ذُنوبٍ وتَقصيرٍ في الطَّاعاتِ، «وأَكرِمْ نُزُلَه»، والنُّزُلُ في الأصلِ طَعامُ الضَّيفِ الَّذي يُهيَّأُ له، والمرادُ هنا ما يُعطِيه اللهُ ويُكرِمُ به عبْدَه عندَ لِقائهِ، «ووَسِّع مُدْخلَه»، أي: وَسِّع مَوضعَ دُخولِه الَّذي يَدخُلُ فيه -وهوَ قبرُه- فلا يُضيَّقُ عليه، وهو مِن نَعيمِ المؤمنِ في القبرِ؛ وذلك أنَّ القبرَ إمَّا أنْ يُوسَّعَ لصاحبِه، وإمَّا أنْ يُضيَّقَ على صاحبِه، «واغسِلْه بالماءِ والثَّلجِ والبَرَدِ»، البَردُ: حَبُّ الثَّلجِ منَ الغَمامِ النَّازلِ مِن السَّماءِ، والمعنى: طَهِّرْه منَ الذُّنوبِ والمَعاصي بها، كَما أنَّ هَذه الأَشياءَ أَنواعُ المُطهِّراتِ منَ الوَسخِ والدَّنسِ، وجمَعَ بيْنها للمُبالَغةِ، أي: طَهِّرْه مِن الذُّنوبِ بأنواعِ المغفرةِ، وذَكَرَ الثَّلجَ والبَرَدَ؛ لأنَّهما بارِدانِ، وذَكَر الماءَ؛ لأنَّ بهِ النَّظافةَ، والذُّنوبُ عُقوبتُها حارَّةٌ، فناسَبَ أنْ يَقْرِنَ معَ الماءِ الثَّلجَ، فيَحصُلُ بالماءِ التَّنظيفُ، ويَحصُلُ بالثَّلجِ والبَرَدِ التَّبريدُ. «ونَقِّهِ منَ الخَطايا»، وهذا دُعاءٌ بالتَّنقيةِ بمَعنى التَّطهيرِ مِن مَعاصِيه، كَما يُنظَّفُ الثَّوبُ الأَبيضُ منَ الوَسخِ، وهوَ تَشبيهٌ للمَعقولِ بالمَحسوسِ، وهوَ تَأكيدٌ لِمَا قَبْلَه أَرادَ بهِ المُبالغةَ في التَّطهيرِ منَ الخَطايا والذُّنوبِ، «وأَبْدِلْه دارًا خَيرًا مِن دارِه»، أي: عَوِّضْه وأَعطِه منَ القُصورِ أو مِن سَعةِ القُبورِ ما هوَ خيرٌ مِن دارِه في الدُّنيا الفانِيَةِ، وأبْدِلْه «أَهلًا خيرًا مِن أَهلِه» الَّذين همْ ذَوُوه، كأُمِّه وخالتِه وبَناتِه، وأَبيه وابنِه، وما أَشبهَ ذلكَ، ممَّا كان له مِن قَراباتِ الدُّنيا، ولا تَدخُلُ الزَّوجةُ فيهم؛ لأنَّه قدْ خصَّها بالذِّكرِ فيما بعْدُ، وقيل: الأهلُ هنا عبارةٌ عن الخدَمِ، «وَزَوْجًا خَيْرًا مِن زَوْجِهِ»، أي: أَعطِه زَوجةً منَ الحُورِ العينِ، أو مِن نِساءِ الدُّنيا في الجَنَّةِ، وقيل: المرادُ بالإبدالِ في الأهلِ والزَّوجةِ إبدالُ الأوصافِ لا الذَّواتِ، «وأَدخِلْه الجنَّةَ» وهو دُعاءٌ بدُخولِه الجنَّةَ ابتداءً مِن غيرِ تَعذيبٍ سابقٍ، «وَأَعِذْهُ مِن عَذَابِ القَبْرِ» بعْدَ أنْ يَدخُلَه، أَوْ قال: «أعِذْه مِن عَذَابِ النَّارِ» في الآخرةِ
وعقَّب عَوفُ بنُ مالكٍ رَضِي اللهُ عنه أنَّه بعْدَ سَماعِه هذا الدُّعاءَ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، تَمنَّى أنْ يكونَ هو ذلكَ الميِّتَ؛ لِما في هذا الدُّعاءِ مِن عَظيمِ الأجرِ والمغفرةِ لصحابِه، ولتَحصيلِ ثَمرةِ دُعائهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم؛ فصَلاةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم ودُعاؤه أرْجى في القَبولِ والتَّحقُّقِ مِن غيرِه
وفي الحَديثِ: الدُّعاءُ في صَلاةِ الجنازةِ، وهو مُعظَمُ مَقصودِها
وفيه: إثباتُ عَذابِ القبرِ