باب الإيضاع في وادي محسر 2
سنن النسائي
أخبرني إبراهيم بن هارون، قال: حدثنا حاتم بن إسمعيل، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: دخلنا على جابر بن عبد الله، فقلت: أخبرني عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دفع من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن العباس حتى أتى محسرا حرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرجك على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرمى بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها - حصى الخذف - رمى من بطن الوادي»
لقدْ نقَل الصَّحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم أفعالَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في حَجَّتِه تَفصيلًا؛ لتقتدِيَ به الأُمَّةُ في ذلك، فتكونَ على بيِّنةٍ وعِلمٍ بهذا الرُّكنِ العظيمِ
وفي هذا الحديثِ يقولُ جابرٌ رَضِي اللهُ عَنه رضِيَ اللهُ عنه: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم "أوضَع"، أي: أسرَع السَّيرَ براحلتِه في حَجَّتِه عندما مرَّ بهذا الوادي، والإسراعُ فيه قدْرُ رَميةِ حجَرٍ، "في وادي مُحسِّرٍ"، والوادي هو كلُّ مُنفرِجٍ بين جِبالٍ أو آكامٍ يكونُ مَنفَدًا للسَّيلِ، ووادي مُحسِّرٍ هو موضعٌ بينَ مِنًى ومُزدلِفةَ، وقيل: سُمِّي بذلك لأنَّ فِيلَ أبرهةَ تعِب فيه وأعيَا، فحَسَّر أصحابَه بفِعلِه، وأوقعَهم في الحسَراتِ، وقيل في بَيانِ علَّةِ الإسراعِ فيه: إنَّما أسرَع؛ لأنَّ بطْنَ الوادي يَكونُ ليِّنًا يَحتاجُ أن يُحرِّكَ الإنسانُ بَعيرَه؛ لأنَّ مشْيَ البَعيرِ على الأرضِ الصُّلبةَ أسرَعُ مِن مَشيِه على الأرضِ الرِّخْوةِ، فحَرَّك مِن أجلِ أن يتَساوى سَيرُها في الأرضِ الصُّلبةِ وسَيرُها في الأرضِ الرِّخْوةِ؛ فالمُلاحَظُ هنا هو مَصلَحةُ السَّيرِ فقط. وقيل: أسرَع؛ لأنَّ اللهَ أهلَك فيه أصحابَ الفيلِ؛ فينبَغي أن يُسرِعَ؛ لأنَّ المشروعَ للإنسانِ إذا مرَّ بأراضي العذابِ أن يُسرِعَ كما فعَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين مَرَّ بديارِ ثَمودَ في غزوةِ تبوكٍ
وقد ورد في مُسنَدِ الإمامِ أحمدَ، عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنهما: إنَّما كان بَدءُ الإيضاعِ مِن أهلِ الباديةِ؛ كانوا يَقِفون حافَتَيِ النَّاسِ قد عَلَّقوا القِعَابَ" وهي آنيةٌ مِثلُ القَصعةِ، "والعِصِّيَّ، فإذا أفاضوا تقَعْقَعوا" والقعقعةُ إحداثُ صوتٍ مِن احتكاكِ العِصيِّ بالآنيةِ المُعلَّقةِ عليها، "فأنفرَتْ بالنَّاسِ"، أي: أسرعتِ الإبلُ بالناسِ خوفًا من الأصواتِ؛ "فلقد رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وإنَّ ذِفْرَى ناقتِه " أي: أصلَ أُذنِها "لتَمَسُّ حارِكَها" وهو أعلَى الكاهلِ، وعَظمٌ مُشرِفٌ من جانبَيهِ، والمعنى: أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا رأى الناسَ أسرعوا في السيرِ جِدًّا ضيَّق لراحلتِه الزِّمامَ حتى كان أصلُ أُذنيها يمسُّ كتِفَها؛ ليمنعَها عن السُّرعةِ "وهو يقولُ: يا أيُّها النَّاسُ، عليكم بالسَّكينةِ"؛ فيُجمَعُ بين الأمرِ بالإيضاعِ والإسراعِ، وبين الأمرِ بالسَّكينةِ والتأنِّي، بأنَّ الهُدوءَ والتأنِّي هو الأصلُ وهو الأمرُ العامُّ؛ حتَّى لا يتأذَّى الناسُ والحجيجُ، والسرعةُ تكونُ حيثُ أمَر النبيُّ بالإسراعِ فقط، مع مراعاةِ عَدمِ أذيَّةِ أحدٍ أو إلْحاقِ الضَّررِ به