باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه
حدثنا محمد بن سليمان الأنبارى وعثمان بن أبى شيبة - المعنى - قالا حدثنا وكيع عن سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال لما توجه النبى -صلى الله عليه وسلم- إلى الكعبة قالوا يا رسول الله فكيف الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله تعالى (وما كان الله ليضيع إيمانكم ).
جاءَت الأحكامُ الشَّرعيَّةُ بالتَّدريجِ، فقد كان المَقصَدُ الأعظَمُ في دَعوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو دَعوةَ النَّاسِ إلى تَوحيدِ اللهِ تعالى، ولم تُفرَضِ الأحكامُ والتَّشريعاتُ إلَّا بَعدَ ما استَقَرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المَدينةِ، واستَقَرَّ التَّوحيدُ في قُلوبِ الصَّحابةِ، فبَدَأ نُزولُ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ الأخرى المُتَعلِّقةِ بأمورِ العِباداتِ والمُعامَلاتِ، ففُرِضَت أحكامٌ، وحُرِّمَت أحكامٌ أخرى، وتَغَيَّرَت أحكامٌ أخرى، وكان العَمَلُ بتلك العِباداتِ قَبلَ أن يُغَيَّرَ حُكمُها عِبادةً، ولمَّا تَغَيَّرَ حُكمُها أصبَحَ العَمَلُ بها بَعدَ ذلك ليس من العِبادةِ، وهكذا بَعضُ التَّشريعاتِ التي كانت مُباحةً في بدايةِ الأمرِ ليس فيها إثمٌ، ولمَّا حُرِّمَت أصبَحَ فِعلُها إثمًا وذَنبًا، ومن تلك القَضايا التي وقَعَت في زَمَنِ التَّشريعِ تَحريمُ الخَمرِ، فقد كان مباحًا ثمَّ حُرِّمَ، فوقَعَ في نَفسِ بَعضِ الصَّحابةِ استِشكالٌ بحالِ أصحابِهم الذينَ ماتوا وهم قد شَرِبوا الخَمرَ: هل عليهم إثمٌ أم لا؟ فنَزَل القُرآنُ يوضِّحُ ذلك وأنَّه ليس عليهم شَيءٌ؛ لأنَّهم شَرِبوها قَبل تَحريمِها، وأنَّ الإثمَ إنَّما هو على مَن شَرِبَها بَعدَ التَّحريمِ، فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائِدة: 93]، فبَيَّنَ سُبحانَه أنَّه ليس عليهم جُناحٌ -أي: حَرَجٌ وإثمٌ- فيما شَرِبوه من الخَمرِ في تلك الفترةِ قَبل تَحريمِه ما دامَ أنَّهم كانوا مُتَّقينَ ومُؤمنينَ، ولأنَّ من فَعلَ ما أبيحَ له لم يَكُنْ له ولا عليه شَيءٌ
وممَّا حَصَل تَغييرٌ في حُكمِه زَمَنَ التَّشريعِ نَسخُ استِقبالِ بَيتِ المَقدِسِ إلى الكَعبةِ؛ فقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُسلمونَ يَستَقبلونَ في صَلاتِهم بَيتَ المَقدِسِ في بدايةِ الأمرِ، ولمَّا هاجَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نزَل نَسخُ استِقبالِ بَيتِ المَقدِسِ إلى الكَعبةِ فتَوجَّهوا نَحوَها، فاستَشكَل الصَّحابةُ حالَ إخوانِهم الذينَ ماتوا وهم يُصَلُّونَ إلى بَيتِ المَقدِسِ: هل صَلاتُهم ضائِعةٌ أم مَقبولةٌ؟ فأنزَل اللهُ تعالى بَيانَ ذلك فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي: أنَّ اللهَ تعالى لن يُضَيِّعَ إيمانَهم، أي: صَلاتَهم؛ لأنَّهم صَلَّوا بأمرٍ شَرعيٍّ فأجرُهم وثَوابُهم باقٍ، وأُطلِق الإيمانُ على الصَّلاةِ لأنَّها أعظَمُ آثارِ الإيمانِ
وفي الحَديثِ: بَيانُ القُرآنِ لِما استُشكِل على الصَّحابةِ
وفيه أنَّ العِبرةَ إنَّما هي الانقيادُ والتَّسليمُ، وكُلُّ طاعةٍ هي امتِثالٌ لأمرِ اللهِ، وهي غَيرُ ضائِعةٍ بفضلِ اللهِ
وفيه وُقوعُ النَّسخِ في الأحكامِ الشَّرعيَّةِ