باب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم5
سنن الترمذى
حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن ابن كعب بن مالك الأنصاري، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه». هذا حديث حسن صحيح. ويروى في هذا الباب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح إسناده
مِن محاسِنِ بيانِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وتعليمِه لأمَّتِه: ضَرْبُ الأمثالِ؛ لتَثبيتُ المعنى، وزيادةِ وُضوحِه، وليَكونُ عونًا على فَهمِه وحِفْظِه.
وفي هذا الحديثِ يَضرِبُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم مثَلًا؛ لِيُوضِّحَ مَدى الفَسادِ الَّذي يَنتُجُ عن حِرصِ العبدِ على المالِ والشَّرفِ، فيَقولُ: "ما ذِئبانِ جائِعانِ أُرسِلَا"، أي: أُطلِقَا وتُرِكَا لِجوعٍ ألَمَّ بهِما "في غَنمٍ"، أي: دخَلَا في قَطيعٍ مِن الغَنمِ، ولا ينجو مِن الغَنمِ مِن إفسادِ الذِّئبينِ بالقَتلِ والهلاكِ في هذا القطيعِ والحالةِ هذه إلَّا قليلٌ، "بأفسَدَ لها"، ليس بأقلَّ مِن إفسادِ الذِّئبينِ لهذه الغنمِ؛ بل إمَّا أنْ يكونَ مساويًا وإمَّا أكثرَ، "مِن حِرْصِ المرءِ على المالِ والشَّرفِ لدِينِه"، أي: طلَبُه للمالِ والشَّرفِ أفسَدُ لدِينِه مِن هذَين الذِّئبين إذا أُطلِقا في الغَنمِ؛ فإنَّ الحِرصَ على المالِ يَجعَلُ المرءَ غيرَ مُبالٍ إذا كسَب المالَ مِن حرامٍ، ويجعلُه حَريصًا على الشَّرفِ إذا قصَد الشُّهرةَ والرِّياءَ، أو حَريصًا على طلَبِ الرِّياسةِ والولاياتِ والجاهِ، وأفحش من هذا وأشد فسادًا وخطرًا أن يُطلَبَ الشَّرفُ والعُلوُّ عَلَى الناس بالأُمورِ الدِّينيةِ، كالعِلمِ والعملِ الصَّالحِ والزُّهدِ؛ لأنَّ هذه الأمور إنَّما يُطلبُ بها ما عندَ اللهِ من الدَّرجاتِ العُلَى والنَّعيمِ المقيمِ، والقُربِ منه سبحانه، ولا يُطلَبُ بها شيءٌ من الدُّنيا؛ فبيَّن النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم أنَّ الفَسادَ الَّذي يأتي مِن الحِرصِ على المالِ وحِرْصِه على أن يُحصِّلَ الشَّرَفَ للدُّنيا- قد يكونُ أعظمَ في فَسادِ دِينِ المرءِ وأكبرَ مِن إفسادِ الذِّئبَين الجائعَينِ في الغنَمِ؛ حيثُ أشارَ إلى أنَّه لا يَسلمُ من دِينِ المرءِ الحريصِ على المالِ والشَّرفِ إلَّا القليلُ، كما أنَّه لا يَسلمُ من الغنمِ مع إفسادِ الذِّئبينِ المذكورينِ فيها إلَّا القليلُ.
وفي الحديثِ: الزَّجرُ والتَّحذيرُ الشديدِ من شَرِّ الحِرصِ على المالِ والشَّرفِ في الدُّنْيَا؛ لأنَّ ذلك مُتلِفٌ للدِّين.