باب القديد1
سنن ابن ماجه
حدثنا إسماعيل بن أسد، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم
عن أبي مسعود، قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فكلمه، فجعل ترعد فرائصه، فقال له: "هون عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد" (1)
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أحْسنَ الناسِ خُلقًا، ومتَّصِفًا بمكارِمِ الأخلاقِ كلِّها، ومنها التَّواضُعُ والرِّفقُ بالنَّاسِ، والتَّبسُّطُ مع أصحابِه دون تَضييعٍ للهَيبةِ والوَقارِ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ أبو مَسعودٍ رَضي اللهُ عنه: "أَتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم رجلٌ، فكَلَّمه، فجَعَل تَرْعُدُ فَرائصُه"، أي: تَفْزَعُ وتَرتجِفُ، وهذا كِنايةٌ عن شدَّةِ خوْفِه، و"الفَريصَةُ": اللَّحْمَةُ الَّتي بين الجنبِ والكَتِفِ، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مُطَمْئِنًا: "هَوِّنْ علَيك"، أي: خَفِّفْ عليك الأمرَ ولا تخَفْ؛ "فإنِّي لَسْتُ بمَلِكٍ"، أي: لستُ على صِفَةِ الملوكِ الجبابرَةِ الَّذين يَخافُهم النَّاسُ ويخشَوْنَ بطْشَهم وأذاهم، "إنَّما أنا ابنُ امرأةٍ تأكُلُ القَديدَ"؛ وهو اللَّحمُ المملَّحُ المجفَّفُ في الشَّمسِ، وكانوا يَفعَلون ذلك ليَحفَظوا اللُّحومَ، ووَجْهُ التَّواضُعِ في قولِه: "أنا ابنُ امرأةٍ"؛ لأنَّ هذا حَقيقةُ الأمرِ، وهي أنَّ كلَّ إنسانٍ مَولودٌ مِنَ امْرأَةٍ؛ فهو ابنُها، ولكنْ مِن شأنِ المتكبِّرين أحيانًا أنَّهم يأنَفون مِن أنْ يتذَكَّروا هذه الحَقيقةَ؛ فكان ذِكْرُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لذلكَ تهدئةً وتَأْنيسًا لِلرَّجُلِ، مَع إظْهارِ التَّواضعِ وعَدمِ التجَبُّرِ على النَّاسِ . وفي قولِه: "تأكُلُ القَديدَ"، أنَّهم لم يَكُنْ عندهم درَجةُ الرَّفاهيةِ الَّتي تكونُ في أبناءِ المُلوكِ؛ فربَّما أكلوا اللَّحمَ المخزَّنَ مِن ذَبائحِهم وليس الطَّازَجَ.
وهذا الكلامُ مِن تواضُعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مع النَّاسِ، ورِفقِه بهِم كما أمَره اللهُ تعالى فقال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]، وقال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215].