باب اللعان 2
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، أنبأنا هشام بن حسان، حدثنا عكرمة
عن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشريك ابن سحماء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "البينة أو حد في ظهرك" فقال هلال ابن أمية: والذي بعثك بالحق، إني لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري. قال: فنزلت: {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم} حتى بلغ: {والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} [النور: 6 - 9] فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل إليهما فجاءا، فقام هلال بن أمية فشهد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل من تائب؟ ثم قامت فشهدت، فلما كان عند الخامسة: {أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين} قالوا لها: إنها لموجبة.
قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت، حتى ظننا أنها سترجع، فقالت: والله لا أفصح قومي سائر اليوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أبصروها (1)، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك ابن سحماء". فجاءت به كذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن" (2).
اللِّعانُ بيْن الزَّوجينِ يَكونُ نَتيجةَ اتِّهامِ الزَّوجِ زَوجَتَه بِالزِّنا ونَفْيِه لِنَسبِ الولدِ منها، فإذا نَفَتِ المرأةُ ذلك حُكِمَ بيْنهما بِالتَّلاعُنِ، وصُورَتُه تكونُ كما في قَولِه تعالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 8 - 9].
وقد وقع في زَمَنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ هِلالَ بنَ أُميَّةَ رضِي اللهُ عنه اتَّهمَ امرأتَه بِالزِّنا، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: البَيِّنَةَ أو حدٌّ في ظَهْرِك، يعني: إمَّا أنْ تأتِيَ بِالبيِّنة الدَّالَّةِ على زِنا زوجتِك -نحوَ إقرارِها أو شهادةِ أربَعِ شُهودٍ- أو تُحَدَّ حدَّ القاذفِ، وهو ثمانون جَلدةً؛ لأنَّه رمى غيرَه بالزِّنا دونَ بَيِّنةٍ، فأنزلَ اللهُ تعالَى فيهما حكْمَ مَن قذَفَ امرأتَه بِالزِّنَا وأنْكرَتِ امرأتُه ذلك، فكان اللِّعانُ بيْنهما، وهو أنْ يَشهَدَ الرَّجلُ أربعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إنَّه لَصادقٌ، ثُمَّ يَشهَدَ الخامسةَ أنَّ لَعْنةَ اللهِ عليه إنْ كان كاذبًا، ثُمَّ تَشهدَ المرأةُ أربعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إنَّه لَمِنَ الكاذِبِينَ، وتَشهَدَ الخامسةَ أنَّ غضَبَ اللهِ عليها إنْ كان زَوجُها صادقًا.
وفي هذا الحديثِ يروي سعيدُ بنُ جُبَيرٍ أنَّه سأل عبدَ اللهِ بنَ عُمرَ رضِي اللهُ عنهما عَن هذه الحادثةِ، فذكَرَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَّن لهما –لهلالِ بنِ أمَيَّةَ، وامرأتِه، بعد أن ثبت كُلُّ واحدٍ منهما على قَولِه وكَذَّب صاحِبَه، أنَّ اللهَ سُبحانه وتعالَى يَعلَمُ الصَّادقَ منهما والكاذِبَ، وأنَّه تعالَى يَتولَّى حِسابِهما، ثُمَّ فرَّقَ بيْنَهُما، وأخبر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هلالَ بنَ أميَّةَ رضِيَ اللهُ عنه أنَّه لا سَبيلَ له عليها، أي: ليس له سُلطانٌ على زوجتِه التي لاعنها، وانحَلَّت عُقدةُ النِّكاحِ بينهما إلى الأبَدِ، فطلب هلالٌ رضِي اللهُ عنه من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يسترِدَّ له منها مالَه الَّذي دفعه لها مَهْرًا، فبيَّن له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لا يستحِقُّ شيئًا مِن مَهْرِه الذي دفَعَه لها؛ إمَّا أنْ يكونَ صادِقًا في دَعواه وأنَّها زانيةٌ بالفِعلِ وكَذَبَت في يمينِها، وهي في هذه الحالةِ تَستحِقُّ المهْرَ مقابِلَ ما استحلَلَه مِن فَرْجِها، وإمَّا أنْ يكونَ كاذبًا في اتهامِه لها بالزِّنا، وأنَّه حلف كَذِبًا، وهذه الحالةُ أَولى ألَّا يُرَدَّ له شَيءٌ من المهرِ.
ويُخبِرُ سعيدُ بنُ جُبيرٍ أنه سأل ابنَ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما عن رجلٍ لاعن امرأتَه، أيُفرَّق بينهما؟ فأشار ابنُ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما بإصبَعَيه السَّبابةِ والوسطى وفرَّق بينهما، ثم ذكَرَ له أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فرَّقَ بَيْنَ أَخَوْي بَني عَجلانَ، وهمُ الزَّوجانِ مِن بَني عَجلانَ اللَّذَيْنِ لاعَنَا عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقالَ لهما صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اللهُ يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكُما كَاذِبٌ، فَهلْ مِنْكُما تَائِبٌ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ»، وظاهِرُه أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال ذلك بعد الفراغِ مِنَ اللِّعانِ، ففيه عَرضُ التوبةِ على المذنِبِ ولو بطريقِ الإجمالِ. وقيل: قاله قبل اللِّعانِ تحذيرًا لهما. وتَفريقُ ابنِ عُمرَ رضِي اللهُ عنهما بين إِصبعَيْه السَّبَّابةِ وَالوُسطى: إشارةٌ إلى التَّفريقِ بَيْنَ المُتلاعِنَيْنِ، فهو تبيينٌ للمعنى بالإشارةِ مع البيانِ باللَّفظِ.
وفي الحَديثِ: جانِبٌ من عَظَمةِ التشريعِ الإسلاميِّ.
وفيه: دَليلٌ على استقرارِ المهرِ بالدُّخولِ.
وفيه: ثُبوتُ مَهرِ الملاعَنةِ المدخولِ بها.