باب المجاهدة 13
بطاقات دعوية
عن أنس - رضي الله عنه - ، قال : غاب عمي أنس بن النضر - رضي الله عنه - عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله ، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين ، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع . فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون ، فقال : اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني : أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - - يعني : المشركين - ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال : يا سعد بن معاذ ، الجنة ورب الكعبة إني أجد ريحها من دون أحد . قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع ! قال أنس : فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه . قال أنس : كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } إلى آخرها . متفق عليه .
قوله : (( ليرين الله )) روي بضم الياء وكسر الراء : أي ليظهرن الله ذلك للناس ، وروي بفتحهما ومعناه ظاهر ، والله أعلم .
لم يدخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسا ولا مالا في سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل، ونصرة دينه، وضربوا في ذلك أروع الأمثلة وأعلاها
وفي هذا الحديث يضرب أنس بن النضر رضي الله عنه مثالا فريدا في صدق العهد مع الله والتضحية بالنفس من أجل إعلاء كلمته سبحانه، فيخبر أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمه أنس بن النضر رضي الله عنه قد غاب عن غزوة بدر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلن النفير العام، فلم يكن خروجه صلى الله عليه وسلم للقتال، وإنما خرج لقافلة أبي سفيان، ولكن أراد الله عز وجل القتال، ونصر رسوله والمؤمنين، وكانت هذه الغزوة في رمضان من السنة الثانية من الهجرة
فلما غاب أنس عن غزوة بدر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين، ولئن أشهدني الله -أي: أحضرني- قتال المشركين، ليرين الله ما أصنع. وأبهم رضي الله عنه ما سيصنع؛ تعظيما له وتهويلا
فلما كانت غزوة يوم أحد -وكانت في شوال من السنة الثالثة من الهجرة، وأحد جبل من جبال المدينة، وكانت بين قريش والمسلمين- وانكشف المسلمون لعدوهم، يعني: بدت هزيمتهم، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه الذين تركوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلوا من فوق الجبل لجمع الغنائم، «وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني: المشركين»، من قتالهم لأهل الإسلام، وإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم. ثم تقدم رضي الله عنه، فاستقبله الصحابي سعد بن معاذ رضي الله عنه منهزما، فقال: «يا سعد بن معاذ، الجنة»، أي: أريد الجنة، وهي مطلوبي، ثم أقسم بالله تعالى فقال: «ورب النضر»، يقصد والده، إني أجد ريح الجنة وطيبها عند جبل أحد. والمعنى: إني أجد ريح الجنة حقيقة، أو أجد ريحا طيبة تذكر بريح الجنة
قال سعد بن معاذ رضي الله عنه: فما استطعت يا رسول الله أن أصنع مثل ما صنع؛ من إقدامه وقتاله للمشركين
قال أنس بن مالك رضي الله عنه -مبينا عظم بلاء أنس بن النضر رضي الله عنه، وصبره في القتال-: فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، والبضع: ما بين الثلاث والتسع، ووجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون، أي: قطعوا من أعضائه بعد موته، فما عرفه أحد إلا أخته -واسمها الربيع بنت النضر- ببنانه، يعني: عرفته بطرف إصبعه
قال أنس رضي الله عنه: كنا نرى -أو نظن- أن هذه الآية نزلت فيه، وفي أشباهه، وهي قول الله تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} [الأحزاب: 23]
وفي الحديث: فضيلة أنس بن النضر رضي الله عنه
وفيه: فضل الوفاء بالعهد مع الله، ولو شق على النفس
وفيه: أن طلب الشهادة لا يتناوله النهي عن الإلقاء بالنفس إلى التهلكة
ثم أخبر أنس بن مالك رضي الله عنه أن أخت أنس بن النضر رضي الله عنه -واسمها الربيع رضي الله عنها- كسرت ثنية امرأة، والثنية هي الأسنان الأمامية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، أي: بكسر سنها مثلما كسرت سن المرأة، كما قال الله تعالى: {والجروح قصاص} [المائدة: 45]، فقال أنس بن النضر رضي الله عنه: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها. قال ذلك توقعا ورجاء من فضله تعالى أن يرضي المجني عليها لتعفو عنها؛ ابتغاء مرضاته، ويحتمل أن ذلك قبل أن يعرف أن الحكم في كتاب الله القصاص على التعيين، وظن التخيير بين القصاص والدية. فأخبر أنس بن مالك رضي الله عنه أن قوم المجني عليها رضوا بالأرش، وتركوا القصاص، والأرش: هو العوض المالي عن الجناية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله» -يعني: حلف يمينا؛ طمعا في كرم الله تعالى- «لأبره» في قسمه، أي: لم يلزمه كفارة يمين؛ لأن الله تعالى سوف يبر قسمه، ويجري له ما أقسم عليه؛ وذلك لمكانته عند الله
وفي الحديث: فضل أنس بن النضر رضي الله عنه، وما كان عليه من قوة الإيمان واليقين بالله عز وجل
وفيه: مشروعية العفو في القصاص وقبول العوض المشروع